فصل: ( فَصْلٌ: فِي ضَمَانِ مَا تُتْلِفُهُ الْبَهَائِمُ )

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***


‏[‏ فَصْلٌ‏:‏ فِي ضَمَانِ مَا تُتْلِفُهُ الْبَهَائِمُ ‏]‏

المتن‏:‏

مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ أَوْ دَوَابَّ ضَمِنَ إتْلَافَهَا نَفْسًا وَمَالًا لَيْلًا وَنَهَارًا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

فَصْلٌ ‏]‏ فِي ضَمَانِ مَا تُتْلِفُهُ الْبَهَائِمُ ‏(‏مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ أَوْ دَوَابَّ‏)‏ سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا، أَمْ مُسْتَأْجِرًا، أَمْ مُودَعًا، أَمْ مُسْتَعِيرًا، أَمْ غَاصِبًا ‏(‏ضَمِنَ إتْلَافَهَا‏)‏ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ‏(‏نَفْسًا وَمَالًا لَيْلًا وَنَهَارًا‏)‏ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَإِلَّا نُسِبَ إلَيْهَا كَالْكَلْبِ إذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ وَقَتَلَ الصَّيْدَ حَلَّ، وَإِنْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ فَلَا فَجِنَايَتُهَا كَجِنَايَتِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَائِقَهَا أَمْ قَائِدَهَا أَمْ رَاكِبَهَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَلْ يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلَاثًا‏؟‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ دُونَ الرَّدِيفِ‏؟‏ وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

حَيْثُ أَطْلَقُوا الضَّمَانَ لِلنَّفْسِ فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَصْبِ الْحَجَرِ كَمَا نَقَلَاهُ فِي آخَرِ الْبَابِ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّاهُ، وَأَفْهَمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفُ مَعَ دَابَّةٍ أَنَّهَا إذَا تَفَلَّتَتْ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا لَا ضَمَانَ وَهُوَ كَذَلِكَ لِخُرُوجِهَا عَنْ يَدِهِ، وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ مَا إذَا كَانَتْ مَعَهُ فِي مَسْكَنِهِ فَدَخَلَ فِيهِ إنْسَانٌ فَرَمَحَتْه أَوْ عَضَّتْهُ فَلَا ضَمَانَ، فَلَوْ قَالَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَرِدْ، وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ نَفْسًا وَمَالًا صَيْدَ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَشَجَرَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَلَيْسَ نَفْسًا وَلَا مَالًا، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا وَهُوَ لَمْ يَقُلْ لِآدَمِيٍّ فَلَا يُرَدُّ ذَلِكَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ صُوَرٌ‏:‏ إحْدَاهَا لَوْ أَرْكَبَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ‏.‏ ثَانِيهَا لَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ فَنَخَسَهَا إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَمَا قَيَّدَ الْبَغَوِيّ فَرَمَحَتْ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ، وَقِيلَ عَلَيْهِمَا‏.‏ فَإِنْ أَذِنَ الرَّاكِبُ فِي النَّخْسِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا‏.‏ ثَالِثُهَا لَوْ غَلَبَتْهُ دَابَّتُهُ فَاسْتَقْبَلَهَا إنْسَانٌ فَرَدَّهَا فَأَتْلَفَتْ فِي انْصِرَافِهَا شَيْئًا ضَمِنَهُ الرَّادُّ‏.‏ رَابِعُهَا‏:‏ لَوْ سَقَطَتْ الدَّابَّةُ مَيِّتَةً فَتَلِفَ بِهَا شَيْءٌ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَكَذَا لَوْ سَقَطَ هُوَ مَيِّتًا عَلَى شَيْءٍ وَأَتْلَفَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِسُقُوطِهَا مَيِّتَةً سُقُوطُهَا بِمَرَضٍ أَوْ عَارِضِ رِيحٍ شَدِيدٍ وَنَحْوِهِ‏.‏ خَامِسُهَا‏:‏ لَوْ كَانَ الرَّاكِبُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِهَا فَعَضَّتْ اللِّجَامُ وَرَكِبَتْ رَأْسَهَا فَهَلْ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ‏؟‏ قَوْلَانِ‏:‏ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي مَسْأَلَةِ اصْطِدَامُ الرَّاكِبَيْنِ تَرْجِيحُ الضَّمَانِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏ سَادِسُهَا‏:‏ لَوْ كَانَ مَعَ الدَّوَابِّ رَاعٍ فَهَاجَتْ رِيحٌ وَأَظْلَمَ النَّهَارُ فَتَفَرَّقَتْ الدَّوَابُّ وَوَقَعَتْ فِي زَرْعٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي فِي الْأَظْهَرِ لِلْغَلَبَةِ كَمَا لَوْ نَدَّ بَعِيرُهُ أَوْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ مِنْ يَدِهِ فَأَفْسَدَتْ شَيْئًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَفَرَّقَتْ الْغَنَمُ لِنَوْمِهِ فَيَضْمَنُ، وَلَوْ رَكِبَ صَبِيٌّ أَوْ بَالِغٌ دَابَّةَ إنْسَانٍ بِلَا إذْنِهِ فَغَلَبَتْهُ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا ضَمِنَهُ‏.‏ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ مَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ الصَّعْبَةَ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ سَاقَ الْإِبِلَ غَيْرَ مَقْطُورَةٍ فِيهَا ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ لِتَقْصِيرِهِ بِذَلِكَ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

لَوْ انْتَفَخَ مَيِّتٌ فَتَكَسَّرَ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ لَمْ يَضْمَنْهُ، بِخِلَافِ طِفْلٍ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ لَهُ فِعْلًا بِخِلَافِ الْمَيِّتِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ بَالَتْ أَوْ رَاثَتْ بِطَرِيقٍ فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ فَلَا ضَمَانَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ بَالَتْ أَوْ رَاثَتْ‏)‏ بِمُثَلَّثَةٍ ‏(‏بِطَرِيقٍ‏)‏ وَلَوْ وَاقِفَةً ‏(‏فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ فَلَا ضَمَانَ‏)‏ لِأَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْ الطَّرِيقِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَا جَزَمَ بِهِ مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ كَذَا هُوَ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ هُنَا، وَخَالَفَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَجَزَمَا فِيهِ بِالضَّمَانِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِالطَّرِيقِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَإِخْرَاجِ الْجُنَاحِ وَالرَّوْشَن إلَى الطَّرِيقِ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَالْأَوَّلُ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ فَإِنَّهُ نَقَلَ فِي بَابِ وَضْعِ الْحَجَرِ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَ دَابَّةٍ ضَمِنَ مَا تُتْلِفُهُ بِبَوْلِهَا فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ أَبْدَى احْتِمَالًا لِنَفْسِهِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، ثُمَّ إنَّهُ جَرَى عَلَى احْتِمَالِهِ هُنَا وَجَزَمَ بِهِ فَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَمَا جَزَمَ بِهِ هُنَا تَبَعًا لِلْإِمَامِ لَا يُنْكَرُ اتِّجَاهُهُ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ نَقَلَهُ ا هـ‏.‏

وَمِنْ هُنَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ عَدَمُ الضَّمَانِ فِيمَا تَلِفَ بِرَكْضٍ مُعْتَادٍ بَحْثٌ لِلْإِمَامِ بَنَاهُ عَلَى احْتِمَالِهِ الْمَذْكُورِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ الضَّمَانُ، وَإِطْلَاقُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ قَاضِيَةٌ بِهِ ا هـ‏.‏

ثُمَّ مَحَلُّ الضَّمَانِ فِي الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمَارُّ، فَلَوْ مَشَى قَصْدًا عَلَى مَوْضِعِ الرَّشِّ أَوْ الْبَوْلِ فَتَلِفَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا هُنَاكَ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بِطَرِيقٍ عَمَّا لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ مُوجِبَاتِ الدِّيَةِ‏.‏ ‏(‏وَيَحْتَرِزُ‏)‏ رَاكِبُ الدَّابَّةِ ‏(‏عَمَّا لَا يُعْتَادُ‏)‏ فِعْلُهُ لَهُ ‏(‏كَرَكْضٍ شَدِيدٍ فِي وَحَلٍ‏)‏ بِفَتْحِ الْحَاءِ ‏(‏فَإِنْ خَالَفَ ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ‏)‏ لِتَعَدِّيهِ، وَفِي مَعْنَى الرَّكْضِ فِي الْوَحَلِ الرَّكْضُ فِي مُجْتَمَعِ النَّاسِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْبَسِيطِ، وَاحْتَرَزَ بِالرَّكْضِ الشَّدِيدِ عَنْ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ فِيهِ، فَلَا يَضْمَنُ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ، فَلَوْ رَكَضَهَا كَالْعَادَةِ رَكْضًا وَمَحِلًّا وَطَارَتْ حَصَاةٌ لِعَيْنِ إنْسَانٍ لَمْ يَضْمَنْ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هَذَا التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى طَرِيقَةِ الْإِمَامِ‏.‏ أَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ فَيَضْمَنُ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الْبُلْقِينِيُّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُ الْمُصَنِّفِ‏:‏ عَمَّا لَا يُعْتَادُ يَقْتَضِي أَنَّ سَوْقَ الْأَغْنَامِ لَا يَضْمَنُ بِتَلَفِهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ، وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ فِي الْغَنَمِ دُونَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ إطْلَاقُ الْحُكْمِ فِي الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حَيَوَانٍ وَحَيَوَانٍ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَحْتَرِزُ عَمَّا لَا يَعْتَادُ كَرَكْضٍ شَدِيدٍ فِي وَحْلٍ فَإِنْ خَالَفَ ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَمَنْ حَمَلَ حَطَبًا عَلَى ظَهْرِهِ، أَوْ بَهِيمَةٍ فَحَكَّ بِنَاءً فَسَقَطَ ضَمِنَهُ، وَإِنْ دَخَلَ سُوقًا فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ ضَمِنَ إنْ كَانَ زِحَامٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَتَمَزَّقَ ثَوْبٌ فَلَا، إلَّا ثَوْبَ أَعْمَى وَمُسْتَدْبِرِ الْبَهِيمَةِ فَيَجِبُ تَنْبِيهُهُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ صَاحِبُ الْمَالِ، فَإِنْ قَصَّرَ بِأَنْ وَضَعَهُ بِطَرِيقٍ أَوْ عَرَّضَهُ لِلدَّابَّةِ فَلَا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَمَنْ حَمَلَ حَطَبًا عَلَى ظَهْرِهِ، أَوْ‏)‏ عَلَى ‏(‏بَهِيمَةٍ‏)‏ لَيْلًا أَوَنَهَارًا ‏(‏فَحَكَّ بِنَاءً‏)‏ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ‏(‏فَسَقَطَ ضَمِنَهُ‏)‏ لِوُجُودِ التَّلَفِ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ دَابَّتِهِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْهَدْمِ وَلَمْ يَتْلَفْ مِنْ الْآلَةِ شَيْءٌ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا سَقَطَ فِي الْحَالِ، فَلَوْ وَقَفَ سَاعَةً ثُمَّ سَقَطَ فَكَمِنْ أَسْنَدَ خَشَبَةٌ إلَى جِدَارِ الْغَيْرِ فَلَا يَضْمَنُ ا هـ‏.‏

وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا لَمْ يُنْسَبْ السُّقُوطُ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ ‏(‏وَإِنْ دَخَلَ سُوقًا‏)‏ مَثَلًا بِذَلِكَ الْحَطَبُ ‏(‏فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ ضَمِنَ‏)‏ مَا تَلِفَ بِهِ ‏(‏إنْ كَانَ‏)‏ هُنَاكَ ‏(‏زِحَامٌ‏)‏ بِكَسْرِ الزَّايِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مُسْتَقْبِلًا أَمْ مُسْتَدْبِرًا لِإِتْيَانِهِ بِمَا لَا يُعْتَادُ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يَكُنْ‏)‏ زِحَامٌ ‏(‏وَتَمَزَّقَ‏)‏ بِهِ ‏(‏ثَوْبٌ‏)‏ مَثَلًا ‏(‏فَلَا‏)‏ يَضْمَنُهُ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ صَاحِبِ الثَّوْبِ، إذْ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ ‏(‏إلَّا ثَوْبَ أَعْمَى‏)‏ وَلَوْ مُقْبِلًا ‏(‏وَ‏)‏ إلَّا ثَوْبَ ‏(‏مُسْتَدْبِرِ الْبَهِيمَةِ فَيَجِبُ تَنْبِيهُهُ‏)‏ أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُنَبِّهْهُ ضَمِنَهُ لِتَقْصِيرِهِ‏.‏ وَإِنْ نَبَّهَهُ وَأَمْكَنَهُ الِاحْتِرَازُ وَلَمْ يَحْتَرِزْ فَلَا ضَمَانَ، وَأَلْحَقَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ بِمَا إذَا لَمْ يُنَبِّهْهُ مَا لَوْ كَانَ أَصَمَّ، وَيُلْحَقُ بِالْأَعْمَى مَعْصُوبَ الْعَيْنِ لِرَمَدٍ وَنَحْوِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ ضَمَانِ جَمِيعِ الثَّوْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الثَّوْبِ جَذْبٌ، فَإِنْ عَلَّقَ الثَّوْبَ فِي الْحَطَبِ فَجَذَبَهُ صَاحِبُهُ وَجَذَبَتْهُ الْبَهِيمَةُ فَعَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ نِصْفُ الضَّمَانِ كَلَاحِقٍ وَطِئَ مَدَاسٍ سَابِقٍ فَانْقَطَعَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ السَّابِقِ‏.‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ إنْ انْقَطَعَ مُؤَخِّرُ السَّابِقِ فَالضَّمَانُ عَلَى اللَّاحِقِ، أَوْ مُقَدَّمُ مَدَاسِ اللَّاحِقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّابِقِ، وَلَوْ دَخَلَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الزِّحَامِ وَتَوَسَّطَ السُّوقَ فَحَدَثَ الزِّحَامُ، فَالْمُتَّجَهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ إلْحَاقُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ زِحَامٌ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، كَمَا لَوْ حَدَثَتْ الرِّيحُ وَأَخْرَجَتْ الْمَالَ مِنْ الثُّقْبِ لَا قَطْعَ فِيهِ، بِخِلَافِ تَعْرِيضِهِ لِلرِّيحِ الْهَابَّةِ، وَقَيَّدَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْبَصِيرَ الْمُقْبِلَ بِمَا إذَا وُجِدَ مُنْحَرِفًا‏.‏ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْهُ لِضِيقٍ وَعَدَمِ عَطْفَةٍ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّحَامِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ ‏(‏وَ‏)‏ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ ‏(‏إنَّمَا يَضْمَنُهُ‏)‏ أَيْ مَا أَتْلَفَتْهُ بَهِيمَتُهُ ‏(‏إذَا لَمْ يُقَصِّرْ صَاحِبُ الْمَالِ‏)‏ فِيهِ ‏(‏فَإِنْ قَصَّرَ بِأَنْ وَضَعَهُ‏)‏ أَيْ الْمَالَ ‏(‏بِطَرِيقٍ أَوْ عَرَّضَهُ لِلِدَّابَّةِ فَلَا‏)‏ يَضْمَنُهُ فَإِنَّهُ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ مَا إذَا كَانَ يَمْشِي مِنْ جِهَةٍ وَحِمَارُ الْحَطَبِ مِنْ أُخْرَى فَمَرَّ عَلَى جَانِبِ الْحِمَارِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْحِمَارَ فَتَعَلَّقَ ثَوْبُهُ بِالْحَطَبِ وَتَمَزَّقَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّائِقِ، لِأَنَّهُ جَنَى بِمُرُورِهِ عَلَى الْحَطَبِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَسِيمُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ سَابِقًا مَنْ كَانَ مَعَهُ دَابَّةٌ قَوْلُهُ هُنَا‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ وَحْدَهَا فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا أَوْ غَيْرَهُ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا، أَوْ لَيْلًا ضَمِنَ، إلَّا أَنْ لَا يُفَرِّطَ فِي رَبْطِهَا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ وَحْدَهَا فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا أَوْ غَيْرَهُ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا، أَوْ لَيْلًا ضَمِنَ‏)‏ لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا بِخِلَافِهِ نَهَارًا لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلًا وَلَوْ تَعَوَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ إرْسَالَ الْبَهَائِمِ أَوْ حِفْظَ الزَّرْعِ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ضَمِنَ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْ مُطْلَقًا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ نَهَارًا صُوَرٌ‏:‏ إحْدَاهَا‏:‏ مَا إذَا رَبَطَ الدَّابَّةَ فِي الطَّرِيقِ عَلَى بَابِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِهِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَإِشْرَاعِ الْجُنَاحِ‏.‏ نَعَمْ إنْ رَبَطَهَا فِي الْمُتَّسَعِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِيهِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي وَالْبَغَوِيُّ ثَانِيهَا‏:‏ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرَاعِي مُتَوَسِّطَةً الْمَزَارِعَ، وَكَانَتْ الْبَهَائِمُ تَرْعَى فِي حَرِيمِ السَّوَّاقِي فَيَجِبُ ضَمَانُ مَا تُفْسِدُهُ إذَا أَرْسَلَهَا بِلَا رَاعٍ عَلَى الْمَذْهَبِ لِاعْتِيَادِ الرَّعْيِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ‏.‏ ثَالِثُهَا‏:‏ مَا إذَا أَخْرَجَهَا عَنْ زَرْعِهِ إلَى زَرْعِ غَيْرِهِ فَأَتْلَفَتْهُ ضَمِنَهُ، إذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِيَ مَالَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ مَحْفُوفَةً بِمَزَارِعِ النَّاسِ وَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهَا إلَّا بِإِدْخَالِهَا مَزْرَعَةَ غَيْرِهِ تَرَكَهَا فِي زَرْعِهِ وَغَرِمَ صَاحِبُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ‏.‏ رَابِعُهَا‏:‏ مَا إذَا أَرْسَلَهَا فِي الْبَلَدِ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ مُطْلَقًا لِمُخَالِفَةِ الْعَادَةَ‏.‏ خَامِسُهَا‏:‏ مَا لَوْ تَكَاثَرَتْ الْمَوَاشِي بِالنَّهَارِ حَتَّى عَجَزَ أَصْحَابُ الزَّرْعِ عَنْ حِفْظِهَا فَحَكَى فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهَيْنِ‏:‏ رَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ مِنْهُمَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى أَصْحَابِ الْمَوَاشِي لِخُرُوجِ هَذَا عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ عَلَى الْأَصَحِّ‏.‏ سَادِسُهَا‏:‏ مَا لَوْ أَرْسَلَ الدَّابَّةَ فِي مَوْضِعٍ مَغْصُوبٍ فَانْتَشَرَتْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَأَفْسَدَتْهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى مَنْ أَرْسَلَهَا وَلَوْ كَانَ نَهَارًا، قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ‏:‏ إنَّهُ إذَا خَلَّاهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ لَيْلًا أَمْ نَهَارًا فَهُوَ مَضْمُونٌ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إرْسَالِهَا‏.‏ سَابِعُهَا‏:‏ لَوْ أَرْسَلَ الدَّابَّةَ الْمَوْدُوعَةَ فَأَتْلَفَتْ وَلَوْ نَهَارًا لَزِمَ الْمُرْسِلَ الضَّمَانُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَجِيرٌ يَحْفَظُهَا‏.‏ ثَامِنُهَا‏:‏ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْفَظُ دَوَابَّهُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَعَلَى الْأَجِيرِ الضَّمَانُ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيّ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهَا فِي الْوَقْتَيْنِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَفِي هَذَا تَوَقُّفٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْفَظُهُ الْمُلَّاكُ‏.‏ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْأَجِيرُ وَالْمُودَعُ إذَا أَتْلَفَتْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ حِفْظَهُ نَهَارًا، وَتَفْرِيطُ الْأَجِيرِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي أَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ يَضْمَنُهُ ا هـ‏.‏

وَحَيْثُ وَجَبَ الضَّمَانُ فَهُوَ عَلَى مَالِكِ الدَّابَّةِ‏.‏ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ وَلَمْ يُعَلِّقُوا الضَّمَانَ بِرَقَبَةِ الْبَهَائِمِ كَمَا عَلَّقُوهُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيمَا تُتْلِفُهُ الْبَهِيمَةُ يُحَالُ عَلَى تَقْصِيرِ صَاحِبِهَا وَالْعَبْدُ ذُو ذِمَّةٍ يَلْتَزِمُ‏.‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ الدَّوَابِّ الْحَمَّامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الطُّيُورِ فَلَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهَا مُطْلَقًا كَمَا حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ إرْسَالُهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ النَّحْلُ، وَقَدْ أَفْتَى الْبُلْقِينِيُّ فِي نَحْلٍ لِإِنْسَانٍ قَتَلَ جَمَلًا لِآخَرَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ صَاحِبَ النَّحْلِ لَا يُمْكِنُهُ ضَبْطُهُ وَالتَّقْصِيرُ مِنْ صَاحِبِ الْجَمَلِ‏.‏ ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ تَضْمِينِ الْمَالِكِ لَيْلًا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ‏(‏إلَّا أَنْ لَا يُفَرِّطَ‏)‏ صَاحِبُ الدَّابَّةِ ‏(‏فِي رَبْطِهَا‏)‏ لَيْلًا بِأَنْ أَحْكَمَهُ فَانْحَلَّ، أَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ عَلَيْهَا فَفَتَحَهُ لِصٌّ، أَوْ انْهَدَمَ الْجِدَارُ فَخَرَجَتْ لَيْلًا فَأَتْلَفَتْ زَرْعَ الْغَيْرِ فَلَا ضَمَانَ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ خَلَّاهَا فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهَا مِنْهُ إلَى الْمَنْزِلِ لَيْلًا كَمَا حَكَاهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ الدَّارِمِيِّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ حَضَرَ صَاحِبُ الزَّرْعِ وَتَهَاوَنَ فِي دَفْعِهَا، وَكَذَا إنْ كَانَ الزَّرْعُ فِي مَحُوطٍ لَهُ بَابٌ تَرْكِهِ مَفْتُوحًا فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ فَرَّطَ فِي رَبْطِهَا لَكِنْ ‏(‏حَضَرَ صَاحِبُ الزَّرْعِ وَتَهَاوَنَ فِي دَفْعِهَا‏)‏ عَنْهُ حَتَّى أَتْلَفَتْهُ فَلَا يَضْمَنُ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُهُ بِالْجَزْمِ بِهِ لِتَفْرِيطِهِ، فَإِنْ كَانَ زَرْعُهُ مَحْفُوفًا بِمَزَارِعِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهَا إلَّا بِإِدْخَالِهَا مَزْرَعَةَ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقِيَ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ، بَلْ يَصْبِرُ وَيَغْرَمُ صَاحِبُهَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ‏(‏وَكَذَا إنْ كَانَ الزَّرْعُ فِي‏)‏ مَكَانٍ ‏(‏مَحُوطٍ لَهُ بَابٌ تَرْكِهِ‏)‏ صَاحِبُهُ ‏(‏مَفْتُوحًا‏)‏ فَلَا يَضْمَنُ مَالِكُهَا وَلَوْ لَيْلًا ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِعَدَمِ غَلْقِهِ‏.‏ وَالثَّانِي يَضْمَنُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْعَادَةِ فِي رَبْطِهَا لَيْلًا‏.‏ فُرُوعٌ‏:‏ لَوْ أَلْقَتْ الرِّيحُ فِي حِجْرِهِ ثَوْبًا مَثَلًا فَأَلْقَاهُ ضَمِنَهُ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَلْيُسَلِّمْهُ إلَى الْمَالِكِ وَلَوْ إلَى نَائِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَالْحَاكِمِ‏.‏ ، وَلَوْ دَخَلَتْ دَابَّةُ الْغَيْرِ مِلْكَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا لِمَالِكِهَا إلَّا إنْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي سَيَّبَهَا فَلْيُحْمَلْ قَوْلُهُمْ فِيمَا مَرَّ‏:‏ أَخْرَجَهَا مِنْ زَرْعِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ زَرْعُهُ مَحْفُوفًا بِزَرْعِ غَيْرِهِ عَلَى مَا إذَا سَيَّبَهَا الْمَالِكُ‏.‏ أَمَّا إذَا لَمْ يُسَيِّبْهَا فَيَضْمَنُهَا مُخْرِجُهَا، إذْ حَقُّهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا لِمَالِكِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَإِلَى الْحَاكِمِ‏.‏ وَلَوْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنْ سَطْحِ غَيْرِهِ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ فِي مِلْكِهِ فَدَفَعَهُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى وَقَعَ خَارِجَ مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ‏.‏ وَيَدْفَعُ صَاحِبُ الزَّرْعِ الدَّابَّةَ عَنْ زَرْعِهِ دَفْعَ الصَّائِلِ، فَإِنْ تَنَحَّتْ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ شَغَلَهَا مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا يُبِيحُ إضَاعَةَ مَالِ غَيْرِهِ‏.‏ وَلَوْ دَخَلَتْ دَابَّةٌ مِلْكَهُ فَرَمَحَتْه فَمَاتَ فَكَإِتْلَافِهَا زَرْعَهُ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَوْ حَمَلَ مَتَاعَهُ فِي مَفَازَةٍ عَلَى دَابَّةِ رَجُلٍ بِلَا إذْنٍ مِنْهُ وَغَابَ فَأَلْقَاهُ الرَّجُلُ عَنْهَا، أَوْ أَدْخَلَ دَابَّتَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ بِلَا إذْنٍ مِنْهُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ زَرْعِهِ فَوْقَ قَدْرِ الْحَاجَةِ فَضَاعَتْ فَفِي الضَّمَانِ عَلَيْهِ لَهُمَا وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَوْجَهُ‏:‏ لَا لِتَعَدِّي الْمَالِكِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَوْجَهُ الثَّانِي وَهُوَ الضَّمَانُ لِتَعَدِّي الْفَاعِلِ بِالتَّضْيِيعِ‏.‏

المتن‏:‏

وَهِرَّةٌ تُتْلِفُ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا إنْ عُهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا ضَمِنَ مَالِكُهَا فِي الْأَصَحِّ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَإِلَّا فَلَا فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَهِرَّةٌ تُتْلِفُ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا‏)‏ أَوْ غَيْرَهُ ‏(‏إنْ عُهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا ضَمِنَ مَالِكُهَا‏)‏ أَيْ صَاحِبُهَا الَّذِي يُؤْوِيهَا مَا أَتْلَفَتْهُ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ لَيْلًا‏)‏ كَانَ ‏(‏أَوْ نَهَارًا‏)‏ كَمَا يَضْمَنُ مُرْسِلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ مَا يُتْلِفُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ يَنْبَغِي أَنْ تُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهَا، وَكَذَا كُلُّ حَيَوَانٍ مُولَعٍ بِالتَّعَدِّي كَالْجَمَلِ وَالْحِمَارِ اللَّذَيْنِ عُرِفَا بِعَقْرِ الدَّوَابِّ وَإِتْلَافِهَا‏.‏ وَالثَّانِي لَا يَضْمَنُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِرَبْطِهَا‏.‏ وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ الْمُفْسِدُ مِمَّا يُرْبَطُ عَادَةً فَتَرَكَهُ ضَمِنَ مَا يُتْلِفُهُ قَطْعًا، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالْمُرَادُ تَعَهُّدُ الْمَالِكِ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ مِنْهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُقَصِّرٌ بِإِرْسَالِهَا ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ بِأَنْ لَمْ يَعْهَدْ مِنْهَا إتْلَافَ مَا ذُكِرَ ‏(‏فَلَا‏)‏ يَضْمَنُ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ لِأَنَّ الْعَادَةَ حِفْظُ الطَّعَامِ عَنْهَا لَا رَبْطُهَا‏.‏ وَالثَّانِي يَضْمَنُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ كَالدَّابَّةِ، وَلَوْ هَلَكَتْ فِي الدَّفْعِ عَنْ حَمَّامٍ وَنَحْوِهِ فَهَدَرٌ لِصِيَالِهَا، وَلَوْ أَخِذَتْ حَمَامَةً وَهِيَ حَيَّةٌ جَازَ فَتْلُ أُذُنِهَا وَضَرْبُ فَمهَا لِتُرْسِلَهَا فَتُدْفَعُ دَفْعَ الصَّائِلٍ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، وَلَوْ صَارَتْ ضَارِيَةً مُفْسِدَةً فَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهَا‏.‏ حَالَ سُكُونِهَا‏؟‏ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ضَرَاوَتَهَا عَارِضَةٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْهَا سَهْلٌ، وَجَوَّزَ الْقَاضِي قَتْلَهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا إلْحَاقًا لَهَا بِالْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فَيَجُوزُ قَتْلُهَا، وَلَا يَخْتَصُّ بِحَالِ ظُهُورِ الشَّرِّ، وَلَا يَجْرِي الْمِلْكُ عَلَيْهَا، وَلَا أَثَرَ لِلْيَدِ وَالِاخْتِصَاصِ فِيهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

سَكَتُوا عَنْ ضَبْطِ الْعَادَةِ‏.‏ قَالَ الدَّمِيرِيُّ‏:‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً كَمَا فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ‏.‏

خَاتِمَةٌ‏:‏

لَوْ دَخَلَتْ بَقَرَةٌ مَثَلًا مُسَيَّبَةٌ مِلْكَ شَخْصٍ فَأَخْرَجَهَا مِنْ مَوْضِعٍ يَعْسُرُ عَلَيْهَا الْخُرُوجَ مِنْهُ فَتَلِفَتْ ضَمِنَهَا‏.‏ ، وَلَوْ ضَرَبَ شَجَرَةً فِي مِلْكِهِ لِيَقْطَعَهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ تَسْقُطُ عَلَى غَافِلٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْهُ الْقَاطِعُ بِهِ فَسَقَطَتْ عَلَيْهِ فَأَتْلَفَتْهُ ضَمِنَهُ وَإِنْ دَخَلَ مِلْكَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاطِعُ بِذَلِكَ أَوْ عَلِمَ بِهِ وَعَلِمَ بِهِ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَيْضًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَكِنْ أَعْلَمَهُ الْقَاطِعُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمَا بِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ‏.‏ ، وَلَوْ حَلَّ قَيْدَ دَابَّةِ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا تُتْلِفُهُ كَمَا لَوْ نَقَبَ الْحِرْزَ وَأَخَذَ الْمَالَ غَيْرُهُ،‏.‏ وَسُئِلَ الْقَفَّالُ عَنْ حَبْسِ الطُّيُورِ فِي أَقْفَاصٍ لِسَمَاعِ أَصْوَاتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَجَابَ بِالْجَوَازِ إذَا تَعَهَّدَهَا مَالِكُهَا بِمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، لِأَنَّهَا كَالْبَهِيمَةِ تُرْبَطُ‏.‏ ، وَلَوْ كَانَ بِدَارِهِ كَلْبٌ عَقُورٌ أَوْ دَابَّةٌ جَمُوحٌ وَدَخَلَهَا شَخْصٌ بِإِذْنِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِالْحَالِ فَعَضَّهُ الْكَلْبُ أَوْ رَمَحَتْهُ الدَّابَّةُ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ بَصِيرًا أَوْ دَخَلَهَا بِلَا إذْنٍ أَوْ أَعْلَمَهُ بِالْحَالِ فَلَا ضَمَانَ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ‏.‏ وَلَوْ أَتْلَفَتْ الدَّابَّةُ الْمُسْتَعَارَةُ أَوْ الْمَبِيعَةُ قَبْلَ قَبْضِهَا زَرْعًا مَثَلًا لِمَالِكِهَا ضَمِنَهُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْبَائِعُ، لِأَنَّهَا فِي يَدِهِمَا، أَوْ أَتْلَفَتْ مِلْكَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ لِلْبَائِعِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا لِلدَّابَّةِ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ مِلْكَهُ وَيَصِيرُ قَابِضًا لِلثَّمَنِ بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ فِي مَحَلِّهِ‏.‏

كِتَابُ السِّيَرِ

المتن‏:‏

كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَقِيلَ عَيْنٍ

الشَّرْحُ‏:‏

كِتَابُ السِّيَرِ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، جَمْعُ سِيرَةٍ بِسُكُونِهَا، وَهِيَ السُّنَّةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَغَرَضُهُ مِنْ التَّرْجَمَةِ ذِكْرُ الْجِهَادِ وَأَحْكَامِهِ، وَعَدَلَ عَنْ التَّرْجَمَةِ بِهِ أَوْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ إلَى السِّيَرِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ مُتَلَقٍّ مِنْ سَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَوَاتِهِ‏.‏ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ‏}‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً‏}‏ ‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏، وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ ‏{‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ‏}‏ وَخَبَرِ مُسْلِمٍ ‏{‏لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا‏}‏، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْأَصْحَابِ تَبَعًا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَذْكُرُوا مُقَدِّمَةً فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، فَلْنَذْكُرْ نُبْذَةً مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ فَنَقُولُ‏:‏ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، وَآمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ بَعْدَهَا قِيلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ، وَقِيلَ ابْنُ عَشْرٍ، وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، ثُمَّ أُمِرَ بِتَبْلِيغِ قَوْمِهِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مَبْعَثِهِ‏.‏ وَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالدُّعَاءِ إلَى التَّوْحِيدِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَمِّلِ، ثُمَّ نُسِخَ بِمَا فِي آخِرِهَا، ثُمَّ نُسِخَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِعَشْرِ سِنِينَ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَقِيلَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِخَمْسٍ أَوْ سِتٍّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ أُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ فُرِضَ الصَّوْمُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ تَقْرِيبًا، وَفُرِضَتْ الزَّكَاةُ بَعْدَ الصَّوْمِ، وَقِيلَ قَبْلَهُ‏.‏ وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ، وَقِيلَ فِي رَجَبٍ مِنْ الْهِجْرَةِ حُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ، وَفِيهَا فُرِضَتْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَفِيهَا ابْتَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ عِيدِ الْفِطْرِ، ثُمَّ عِيدِ الْأَضْحَى‏.‏ ثُمَّ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَلَمْ يَحُجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعًا، وَ ‏(‏كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏)‏ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ‏(‏فَرْضَ كِفَايَةٍ‏)‏ أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَبِالْإِجْمَاعِ‏.‏ وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ‏:‏ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ‏}‏ إلَى قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ فَفَاضَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْقَاعِدِينَ، وَوَعَدَ كُلًّا الْحُسْنَى، وَالْعَاصِي لَا يُوعَدُ بِهَا، وَلَا يُفَاضَلُ بَيْنَ مَأْجُورٍ وَمَأْزُورٍ، وَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَكَانَ مَمْنُوعًا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ‏}‏ الْآيَةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ مَبْعَثِهِ، وَقِيلَ بَعْدَ عَشْرَةٍ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ بِهَا عَشْرًا بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ إذَا اُبْتُدِئَ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ‏}‏ ثُمَّ أُبِيحَ لَهُ ابْتِدَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ‏}‏ الْآيَةَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَرْطٍ وَلَا زَمَانٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ وَقَدْ غَزَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِيهَا فِي تِسْعِ سِنِينَ كَمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ‏{‏أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ، وَبَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَايَا، وَلَمْ يَتَّفِقْ فِي كُلِّهَا قِتَالٌ‏}‏ فَلْنَذْكُرْ مِنْ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَرَهَا‏.‏ فَفِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ هِجْرَتِهِ لَمْ يَغْزُ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى فِي الثَّانِيَةِ، وَأُحُدٌ ثُمَّ بَدْرٍ الصُّغْرَى، ثُمَّ بَنِي النَّضِيرِ فِي الثَّالِثَةِ، وَالْخَنْدَقِ فِي الرَّابِعَةِ، وَذَاتُ الرِّقَاعِ، ثُمَّ دَوْمَةُ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي السَّادِسَةِ، وَخَيْبَرَ فِي السَّابِعَةِ، وَمُؤْتَةَ وَذَاتُ السَّلَاسِلِ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَحُنَيْنٌ وَالطَّائِفُ فِي الثَّامِنَةِ، وَتَبُوكُ فِي التَّاسِعَةِ عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنْ الْكُفْرِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏{‏مَا كَفَرَ بِاَللَّهِ نَبِيٌّ قَطُّ‏}‏ وَفِي عِصْمَتِهِمْ قَبْلَهَا مِنْ الْمَعَاصِي خِلَافٌ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ بَعْدَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُزْرِي بِالْمُرُوءَةِ، وَكَذَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَلَوْ سَهْوًا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا وَتَأَوَّلُوا الظَّوَاهِرَ الْوَارِدَةَ فِيهَا، وَجَوَّزَ الْأَكْثَرُونَ صُدُورَهَا عَنْهُمْ سَهْوًا إلَّا الدَّالَّةَ عَلَى الْخِسَّةِ‏:‏ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ‏.‏ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ‏:‏ وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ يَتَعَبَّدُ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ دِينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ‏؟‏ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ انْتَهَى‏.‏ وَصَحَّحَ الْوَاحِدِيُّ الْأَوَّلَ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَاقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ‏.‏ وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَيْ عَشَرَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ ‏(‏وَقِيلَ‏)‏ كَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ ‏(‏عَيْنٍ‏)‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا‏}‏ ‏{‏إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏، وَقَائِلُهُ قَالَ‏:‏ كَانَ الْقَاعِدُونَ حُرَّاسًا لِلْمَدِينَةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ‏.‏ وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَعَيُّنِ الْإِجَابَةِ‏.‏ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ‏:‏ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْأَنْصَارِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ شَاعِرُهُمْ‏:‏ نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا وَقَدْ يَكُونُ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ عَيْنٍ بِأَنْ أَحَاطَ عَدُوٌّ بِالْمُسْلِمِينَ كَالْأَحْزَابِ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِتَعَيُّنِ جِهَادِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ حَالَانِ، خِلَافَ مَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَأَمَّا بَعْدَهُ‏)‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏(‏فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ‏)‏ مُسْتَقِرِّينَ بِهَا غَيْرَ قَاصِدِينَ شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏فَفَرْضُ كِفَايَةٍ‏)‏ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَلَوْ فُرِضَ عَلَى الْأَعْيَانِ لَتَعَطَّلَ الْمَعَاشُ ‏(‏إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ‏)‏؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَتَعْبِيرُهُ بِالسُّقُوطِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَوْلُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ يَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَلَوْ قَامَ بِهِ مُرَاهِقُونَ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ أَهْلِ الْفُرُوضِ‏.‏ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ‏:‏ وَسَقَطَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ مَعَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْأُنُوثَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْجَمِيعُ أَثِمَ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِي بَيَانُهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَقَلُّ الْجِهَادِ مَرَّةٌ فِي السَّنَةِ كَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏}‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ وَلِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أُمِرَ بِهِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْهُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَكَذَا بَدَلُهَا، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ، وَأَقَلُّ مَا وَجَبَ الْمُتَكَرِّرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ‏.‏ فَإِنْ زَادَ عَلَى مَرَّةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَحْصُلُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِأَنْ يَشْحَنَ الْإِمَامُ الثُّغُورَ بِمُكَافِئِينَ لِلْكُفَّارِ مَعَ إحْكَامِ الْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ وَتَقْلِيدِ الْأُمَرَاءِ، أَوْ بِأَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ دَارَ الْكُفْرِ بِالْجُيُوشِ لِقِتَالِهِمْ، وَوُجُوبُ الْجِهَادِ وُجُوبُ الْوَسَائِلِ لَا الْمَقَاصِدِ، إذَا الْمَقْصُودُ بِالْقِتَالِ إنَّمَا هُوَ الْهِدَايَةُ وَمَا سِوَاهَا مِنْ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا قَتْلُ الْكُفَّارِ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْهِدَايَةِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ بِغَيْرِ جِهَادٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَحِلُّهُ فِي الْغَزْوِ‏.‏ وَأَمَّا حِرَاسَةُ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ فَمُتَعَيِّنَةٌ فَوْرًا‏.‏ وَاعْلَمْ أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ذَكَرَ مِنْهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْجَنَائِزِ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَدَفْنَهُ، وَفِي اللَّقِيطِ الْتِقَاطَ الْمَنْبُوذِ، وَذَكَرَ هُنَا الْجِهَادَ‏.‏ ثُمَّ اُسْتُطْرِدَ إلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

فَقَالَ ‏(‏وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ‏)‏ الْعِلْمِيَّةِ، وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَعَلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ، وَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مِنْ الْحِسَابِ وَالْمَعَادِ وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَجِ الْقَهْرِيَّةِ بِالسَّيْفِ لَا بُدَّ مِمَّنْ يُقِيمُ الْبَرَاهِينَ وَيُظْهِرُ الْحُجَجَ وَيَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ وَيَحِلُّ الْمُشْكِلَاتِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ ‏(‏وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فِي الدِّينِ‏)‏ وَدَفْعِ الشُّبْهَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ دَفْعُ شُبْهَةٍ أَدْخَلَهَا بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ أَدِلَّةَ الْمَعْقُولِ وَيَعْلَمَ دَوَاءَ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَحُدُودَهَا وَأَسْبَابَهَا كَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَأَنْ يَعْرِفَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْعُلُومِ لَا دَقَائِقِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ فَرَائِضِ الدِّينِ كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَشُرُوطِهِمَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَكَذَا قَبْلَهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَعَلُّمِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَعَ الْفِعْلِ وَكَأَرْكَانِ الْحَجِّ وَشُرُوطِهِ وَتَعَلُّمِهَا عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ وَكَالزَّكَاةِ إنْ مَلَكَ مَالًا، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ سَاعٍ يَكْفِيه الْأَمْرَ، وَأَحْكَامِ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ إنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ وَيَتَّجِرَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ بَيْعَ الْخُبْزِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ خُبْزِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ وَلَا بِدَقِيقِهِ، وَعَلَى مَنْ يُرِيدُ الصَّرْفَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ‏.‏ وَأَمَّا أُصُولُ الْعَقَائِدِ فَالِاعْتِقَادُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَفَرْضُ عَيْنٍ‏.‏ وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمُتَرْجَمُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فَلَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِهِ‏.‏ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ وَلَوْ كَانَ النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي صَفْوَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا أَوْجَبْنَا التَّشَاغُلَ بِهِ، وَرُبَّمَا نُهِينَا عَنْهُ، وَأَمَّا الْآنَ وَقَدْ ثَارَتْ الْبِدْعَةُ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِهَا تَلْتَطِمُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْدَادِ مَا يُدْعَى بِهِ إلَى الْمَسْلَكِ الْحَقِّ وَتُحَلُّ بِهِ الشُّبْهَةُ فَصَارَ الِاشْتِغَالُ بِأَدِلَّةِ الْمَعْقُولِ وَحَلُّ الشُّبْهَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَقَالَ‏:‏ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَغُّلِ فِيهِ‏.‏ وَأَمَّا تَعَلُّمُ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبَائِعِيِّينَ وَالسِّحْرِ فَحَرَامٌ، وَالشِّعْرُ مُبَاحٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُخْفٌ أَوْ حَثٌّ عَلَى شَرٍّ وَإِنْ حَثَّ عَلَى التَّغَزُّلِ وَالْبَطَالَةِ كُرِهَ‏.‏

المتن‏:‏

وَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ، وَالْفُرُوعِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الْقِيَامُ ‏(‏بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ‏)‏ وَسَبَقَ مَعْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا ‏(‏وَالْفُرُوعِ‏)‏ الْفِقْهِيَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ‏(‏بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ‏)‏ وَالْفُتْيَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ‏.‏ فَإِنْ اُحْتِيجَ فِي التَّعْلِيمِ إلَى جَمَاعَةٍ لَزِمَهُمْ، وَيَجِبُ لِكُلِّ مَسَافَةٍ قَصْرٍ مُفْتٍ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى قَطْعِهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ؛ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى عَنْ قَاضٍ بِكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ وَتَكَرُّرِهَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مِنْ كَثِيرِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاءِ فِي الْوَقَائِعِ، وَلَوْ لَمْ يُفْتِ الْمُفْتِي وَهُنَاكَ مَنْ يُفْتِي وَهُوَ عَدْلٌ لَمْ يَأْثَمْ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِفْتَاءُ‏.‏ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ كَذَلِكَ‏.‏ ا هـ‏.‏

وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ نَظِيرِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ وَالشُّهُودِ بِأَنَّ اللُّزُومَ هُنَا فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ بِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ بِخِلَافِهِ ثُمَّ‏.‏ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ‏:‏ وَيُسْتَحَبُّ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْمُسْتَفْتِي‏.‏ أَمَّا تَعَلُّمُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْفُرُوعِ فَفَرْضُ عَيْنٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِلْمُ الطِّبِّ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِمُعَالَجَةِ الْأَبَدَانِ، وَالْحِسَابِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَالْمُعَامَلَاتِ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةُ، وَالتَّصْرِيفُ، وَأَسْمَاءُ الرُّوَاةِ وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقُهُمْ، وَأَمَّا الْمَنْطِقُ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ‏:‏ إنَّ مَنْ جَهِلَهُ لَا وُثُوقَ بِعِلْمِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَمَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ‏.‏ قَالَ الشَّارِحُ‏:‏ وَعَرَّفَ أَيْ الْمُصَنِّفُ الْفُرُوعَ‏:‏ أَيْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ دُونَ مَا قَبْلَهُ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ‏:‏ أَيْ‏:‏ وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ‏:‏ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَوْدُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، وَهُنَا مُؤَاخَذَةٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَهِيَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَالْفُرُوعِ ‏"‏ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى تَفْسِيرٍ، أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِإِقَامَةِ‏.‏ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ لَمْ يَذْكُرْهُ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اقْتَضَى أَنَّ الْفُرُوعَ لَيْسَتْ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَقَدْ يُخْتَارُ الْأَوَّلُ‏.‏ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَافَ اسْتِقْصَائِيَّةٌ‏.‏

فَائِدَةٌ‏:‏

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فِي الْعِلْمِ عَلَى مَنْ جَمَعَ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ‏:‏ التَّكْلِيفُ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلِي الْقَضَاءَ‏:‏ أَيْ حُرًّا ذَكَرًا لَا عَبْدًا وَامْرَأَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَلِيدًا، وَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِانْقِطَاعِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ، وَيَدْخُلُ الْفَاسِقُ فِي الْفَرْضِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ، وَفِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا الدُّخُولُ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى دُونَ الْقَضَاءِ

المتن‏:‏

وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ‏(‏الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ‏)‏ مِنْ وَاجِبَاتِ الشَّرْعِ ‏(‏وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ‏)‏ مِنْ مُحَرَّمَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مَفْسَدَةً أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُرْتَكِبَ يَزِيدُ فِيمَا هُوَ فِيهِ عِنَادًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ‏:‏ فِي الْإِحْيَاءِ كَإِمَامِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْوُلَاةِ‏:‏ بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَلِلصَّبِيِّ ذَلِكَ وَيُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ الْعَدَالَةُ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ وَعَلَى مُتَعَاطِي الْكَأْسَ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْجُلَّاسِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ‏:‏ يَجِبُ عَلَى مَنْ غَصَبَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا أَمْرُهَا بِسَتْرِ وَجْهِهَا عَنْهُ‏.‏ ا هـ‏.‏

وَالْإِنْكَارُ يَكُونُ بِالْيَدِ‏.‏ فَإِنْ عَجَزَ فَبِاللِّسَانِ، وَيَرْفُقُ بِمَنْ يَخَافُ شَرَّهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً، فَإِنْ عَجَزَ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي‏.‏ فَإِنْ عَجَزَ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعَ الْقَوْلِ، بَلْ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى، وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ ‏{‏فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى نَفْسَهُ‏.‏ فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْقُطْ الْآخَرُ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يُنْهَى فِي دَقَائِقِ الْأُمُورِ إلَّا عَالِمٌ، فَلَيْسَ لِلْعَوَامِّ ذَلِكَ، وَلَا يُنْكِرُ الْعَالِمُ إلَّا مُجْمَعًا عَلَى إنْكَارِهِ، لَا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَرَى الْفَاعِلَ تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْحَنَفِيّ يَحُدُّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ مَعَ أَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ أَدِلَّةَ عَدَمِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ وَاهِيَةٌ، وَبِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ حَدِّنَا الشَّارِبَ بِهِ وَعَدَمِ حَدِّنَا الْوَاطِئَ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ، وَإِنْ نُدِبَ عَلَى جِهَةِ النَّصِيحَةِ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ بِرِفْقٍ فَحَسَنٌ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي خِلَافٍ آخَرَ أَوْ فِي تَرْكِ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ حِينَئِذٍ‏.‏ وَلَيْسَ لِكُلٍّ مِنْ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ التَّجَسُّسُ وَالْبَحْثُ وَاقْتِحَامُ الدُّورِ بِالظُّنُونِ‏:‏ بَلْ إنْ رَأَى شَيْئًا غَيَّرَهُ، نَعَمْ إنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِمَنْ اخْتَفَى بِمُنْكَرٍ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ تَدَارُكُهَا كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ اقْتَحَمَ لَهُ الدَّارَ وَتَجَسَّسَ وُجُوبًا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصَبَّ مُحْتَسِبًا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ كَانَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالْمُحْتَسِبِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهَا، وَكَذَا بِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ مَحِلَّهُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَسِبِ، وَلَا يُقَاسُ بِالْوَالِي غَيْرُهُ، وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ بِصَوْمِهِ صَارَ وَاجِبًا، وَلَا يَأْمُرُ الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِي الْمَذْهَبِ بِمَا لَا يُجَوِّزُونَهُ، وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ أَوْ سُنَّةً لَهُمْ، وَيَأْمُرُ بِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ كَعِمَارَةِ سُوَرِ الْبَلَدِ وَشِرْبِهِ وَمَعُونَةِ الْمُحْتَاجِينَ، وَيَجِبُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ مَالٌ، وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَيَنْهَى الْمُوسِرَ عَنْ مَطْلِ الْغَنِيِّ إنْ اسْتَعْدَاهُ الْغَرِيمُ عَلَيْهِ، وَيَنْهَى الرَّجُلَ عَنْ الْوُقُوفِ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي طَرِيقٍ خَالٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ رِيبَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهُ مَعَهَا فِي طَرِيقٍ يَطْرُقَهُ النَّاسُ، وَيَأْمُرُ النِّسَاءَ بِإِيفَاءِ الْعِدَدِ، وَالْأَوْلِيَاءَ بِنِكَاحِ الْأَكْفَاءِ، وَالسَّادَةَ بِالرِّفْقِ بِالْمَمَالِيكِ، وَأَصْحَابَ الْبَهَائِمِ بِتَعَهُّدِهَا، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْوَعْظِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَسَرَّ فِي صَلَاةٍ جَهْرِيَّةٍ أَوْ زَادَ فِي الْأَذَانِ وَعَكَسَهُمَا، وَلَا يُنْكِرُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ قَبْلَ الِاسْتِعْدَاءِ مِنْ ذِي الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْبِسُ وَلَا يَضْرِبُ لِلدَّيْنِ، وَيُنْكِرُ عَلَى الْقُضَاةِ إنْ احْتَجَبُوا عَنْ الْخُصُومِ أَوْ قَصَّرُوا فِي النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَعَلَى أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ الْمَطْرُوقَةِ إنْ طَوَّلُوا الصَّلَاةَ كَمَا أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ ذَلِكَ، وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ مِنْ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ لِمَا يَخْشَى فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ، وَلَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسُ عَلَى مَذْهَبِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِحْيَاءُ الْكَعْبَةِ كُلَّ سَنَةٍ بِالزِّيَارَةِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ‏(‏إحْيَاءُ الْكَعْبَةِ‏)‏ وَالْمَوَاقِفِ الَّتِي هُنَا ‏(‏كُلَّ سَنَةٍ بِالزِّيَارَةِ‏)‏ مَرَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

الْمُرَادُ بِالزِّيَارَةِ كُلَّ سَنَةٍ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَلَا يَكْفِي إحْيَاؤُهَا بِالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ وَلَا بِالْعُمْرَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، إذْ لَا يَحْصُلَ مَقْصُودَ الْحَجِّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ الْحَجُّ فَكَانَ بِهِ إحْيَاؤُهَا، فَيَجِبُ الْإِتْيَانُ كُلَّ سَنَةٍ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِمِينَ بِهَذَا الْفَرْضِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ‏:‏ بَلْ الْفَرْضُ أَنْ يَحُجَّهَا كُلَّ سَنَةٍ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ‏.‏ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ‏:‏ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ‏:‏ وَيُتَّجَهُ اعْتِبَارُهُ مِنْ عَدَدٍ يَظْهَرُ بِهِمْ الشِّعَارُ‏.‏ ا هـ‏.‏

وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ‏؟‏ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْكَعْبَةِ بِالْحَجِّ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَكُلُّ وَفْدٍ يَجِيئُونَ كُلَّ سَنَةٍ لِلْحَجِّ فَهُمْ يُحْيُونَ الْكَعْبَةَ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ حَصَلَ، بِمَا أَتَى بِهِ سُقُوطُ فَرْضِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ كَانَ قَائِمًا بِفَرْضِ كِفَايَةٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ حَجُّ التَّطَوُّعِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَا جِهَتَيْنِ مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ‏:‏ جِهَةُ التَّطَوُّعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ، وَجِهَةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ بِإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ هُوَ تَطَوُّعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَأَنْ يُقَالَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مِنْ حَيْثُ الْإِحْيَاءُ، وَبِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْيَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ الْعِبَادَةِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَسْقُطُ بِالْمَنْدُوبِ كَاللَّمْعَةِ الْمُغْفَلَةِ فِي الْوُضُوءِ تُغْسَلُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِجِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَإِذَا سَقَطَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ أَوْلَى، وَلِهَذَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ قِيلَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعَبِيدِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِين؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ لَكَانَ جَوَابًا‏.‏

المتن‏:‏

وَدَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ كَكِسْوَةِ عَارٍ، وَإِطْعَامِ جَائِعٍ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِزَكَاةٍ، وَبَيْتِ مَالٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ‏(‏دَفْعُ ضَرَرِ‏)‏ الْمَعْصُومِينَ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى ‏(‏الْمُسْلِمِينَ‏)‏ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُوسِرِينَ ‏(‏كَكِسْوَةِ عَارٍ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏وَإِطْعَامِ جَائِعٍ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ‏)‏ ضَرَرُهُمْ ‏(‏بِزَكَاةٍ وَ‏)‏ لَا ‏(‏بَيْتِ مَالٍ‏)‏ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَغْلَبُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَإِلَّا فَفِي مَعْنَاهُمَا سَهْمُ الْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِ كَوَقْفٍ عَامٍّ وَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَوَصِيَّةٍ صِيَانَةً لِلنُّفُوسِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِسْوَةِ سَتْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَدَنُ‏.‏ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ‏:‏ وَهُوَ كَذَلِكَ بِلَا شَكٍّ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَتَعْبِيرُ الرَّوْضَةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مُعْتَرَضٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، لَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ الْمُوَاسَاةِ بِمَا زَادَ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُوَجِّهُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ بِمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى كِفَايَةِ سَنَةٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ هَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَلَا يُنَافِيه مَا فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ وُجُوبِ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، فَإِنَّ هَذَا فِي الْمُحْتَاجِ غَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَذَاكَ فِي الْمُضْطَرِّ، وَهَلْ يَكْفِي سَدُّ الضَّرُورَةِ أَمْ يَجِبُ تَمَامُ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ‏؟‏ فِيهِ وَجْهَانِ، مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي الْأَطْعِمَةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ‏.‏ وَالْأَوْجَهُ تَرْجِيحُ الثَّانِي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْبِنَاءِ الِاتِّحَادُ فِي التَّرْجِيحِ، وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْمُوسِرِينَ فَكُّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالِهِمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ابْتِيَاعِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْكِتَابِ‏.‏ قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَسِيرٍ تُعَذِّبُهُ الْكُفَّارُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ لَكِنْ فِي بَابِ الْهُدْنَةِ أَنَّ الْفِدَاءَ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهَذَا الْحَمْلِ يُجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْ الرَّوْضَةِ أَيْضًا‏.‏ أَمَّا أُسَارَى الذِّمِّيِّينَ فَفِيهِمْ احْتِمَالَانِ‏:‏ وَالْأَوْجَهُ فِيهِمْ التَّفْصِيلُ‏.‏

المتن‏:‏

وَتَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ، وَأَدَاؤُهَا، وَالْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ، وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ إعَانَةُ الْقُضَاةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَ ‏(‏تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ‏)‏ إنْ حَضَرَ الْمُتَحَمِّلُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنْ دَعَا الشَّاهِدَ لِلتَّحَمُّلِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا إنْ دَعَاهُ قَاضٍ أَوْ مَعْذُورٌ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ ‏(‏وَأَدَاؤُهَا‏)‏ إذَا تَحَمَّلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصَابٍ، فَإِنْ تَحَمَّلَ اثْنَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَالْأَدَاءُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فِي الشَّهَادَاتِ مَعَ مَزِيدِ إيضَاحٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

التَّحَمُّلُ يُفَارِقُ الْأَدَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّحَمُّلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى النَّاسِ، وَالْأَدَاءَ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ‏:‏ وَفَرْضُ الْأَدَاءِ أَغْلَظُ مِنْ فَرْضِ التَّحَمُّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏وَالْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ‏)‏ كَالتِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْحِجَامَةِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إهْلَاكِ أَنْفُسِهِمْ لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا، وَفِي الْحَدِيثِ ‏{‏اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ‏}‏ وَفَسَّرَهُ الْحَلِيمِيُّ بِاخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَالْحِرَفِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

عَطْفُ الصَّنَائِعِ عَلَى الْحِرَفِ يَقْتَضِي تَغَايُرَهُمَا مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الصِّحَاحِ فَسَّرَ الصِّنَاعَةَ بِالْحِرْفَةِ، فَعَلَى هَذَا عَطَفَهَا عَلَيْهَا كَعَطْفِ رَحْمَةٍ عَلَى صَلَوَاتٍ فِي قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ الصِّنَاعَاتُ هِيَ الْمُعَالَجَاتُ كَالْخِيَاطَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْحِرَفُ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ فَتُطْلَقُ عُرْفًا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ صُنَّاعًا وَيُدَوْلِبُهُمْ وَلَا يَعْمَلُ فَهِيَ أَعَمُّ‏.‏ ‏(‏وَمَا تَتِمُّ بِهِ الْمَعَايِشُ‏)‏ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْحِرَاثَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ‏{‏سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ لَا تُحْوِجْنِي إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَالَ‏:‏ لَا تَقُلْ هَكَذَا لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّاسِ‏.‏ قَالَ فَكَيْفَ أَقُولُ‏؟‏ قَالَ قُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ لَا تُحْوِجْنِي إلَى شِرَارِ خَلْقِكَ‏.‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ شَرُّ خَلْقِهِ‏؟‏‏.‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا أُمِنُوا وَإِذَا مُنِعُوا عَابُوا‏}‏ ‏{‏وَسَمِعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ فَقَالَ‏:‏ سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ‏}‏ وَسَمِعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَجُلًا يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ لَا تُحَوِّجْنِي إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَالَ‏:‏ هَذَا رَجُلٌ تَمَنَّى الْمَوْتَ‏.‏

المتن‏:‏

وَ جَوَابُ سَلَامٍ عَلَى جَمَاعَةٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ‏(‏جَوَابُ سَلَامٍ‏)‏ لِمُسْلِمٍ عَاقِلٍ وَلَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا ‏(‏عَلَى جَمَاعَةٍ‏)‏ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ‏.‏ أَمَّا كَوْنَهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ وَأَمَّا كَوْنَهُ كِفَايَةً فَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد ‏"‏ يُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِئُ عَنْ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ ‏"‏ وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالثَّوَابِ وَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ أَجَابُوا كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَمْ مُتَرَتِّبِينَ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِرَدِّ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ سَقَطَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالصَّبِيُّ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ السَّلَامِ الْأَمَانُ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَسْقُطُ أَيْضًا بِرَدِّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ السَّلَامَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ امْرَأَةٌ فَرَدَّتْ هَلْ يَكْفِي‏؟‏ يَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُشْرَعُ لَهَا الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ أَمْ لَا‏؟‏ فَحَيْثُ شُرِعَ لَهَا كَفَى جَوَابُهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا، وَمِثْلُهَا كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا الْخُنْثَى، وَاحْتَرَزَ بِالْجَمَاعَةِ عَنْ الْوَاحِدِ فَإِنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ إلَّا إنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ أَوْ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ أُنْثَى مُشْتَهَاةً وَالْآخَرُ رَجُلًا وَلَا مَحْرَمِيَّةٌ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ ثُمَّ إنْ سَلَّمَ هُوَ حَرُمَ عَلَيْهَا‏.‏ أَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ نَحْوُ مَحْرَمِيَّةٍ كَزَوْجَتِهِ وَعَبْدِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَنْ يُبَاحُ نَظَرُهُ إلَيْهَا فَيَجِبُ الرَّدُّ، وَلَا يُكْرَهُ عَلَى جَمْعِ نِسْوَةٍ أَوْ عَجُوزٍ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، بَلْ يُنْدَبُ الِابْتِدَاءُ بِهِ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهِنَّ وَعَكْسَهُ، وَيَجِبُ الرَّدُّ كَذَلِكَ، وَالْخُنْثَى مَعَ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ مَعَهَا، وَمَعَ الرَّجُلِ كَالْمَرْأَةِ مَعَهُ وَمَعَ الْخُنْثَى كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ اتِّصَالُهُ بِالِابْتِدَاءِ لِاتِّصَالِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فِي الْعَقْدِ، فَلَوْ سَلَّمَ جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ عَلَى وَاحِدٍ فَقَالَ‏:‏ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَقَصَدَ الرَّدَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَجْزَأَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْجَمِيعِ‏:‏ كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ صَلَاةً وَاحِدَةً كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيِّ وَأَقَرَّهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَكْفِهِ‏.‏ وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا خِلَافُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَهُوَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا سَلَّمُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً‏.‏ أَمَّا لَوْ سَلَّمُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَانُوا كَثِيرِينَ فَلَا يَحْصُلَ الرَّدُّ لِكُلِّهِمْ إذْ قَدْ مَرَّ أَنَّ شَرْطَ حُصُولِ الْوَاجِبِ أَنْ يَقَعَ مُتَّصِلًا بِالِابْتِدَاءِ‏.‏ وَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ وَإِنْ شَمَلَتْهُمَا عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَكَذَا فَاسِقٌ وَنَحْوِهِ كَمُبْتَدَعٍ إنْ كَانَ فِي تَرْكِهِ زَجْرٌ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ‏:‏ سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ فَإِذَا بَلَغَهُ خَبَرُ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ لَزِمَهُ الرَّدُّ، وَهَلْ صِيغَةُ إرْسَالِ السَّلَامِ مَعَ الْغَيْرِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ أَوْ يَكْفِي سَلِّمْ لِي عَلَى فُلَانٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا مَرَّ‏؟‏ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ التَّتِمَّةِ الثَّانِي، وَعِبَارَتُهُ أَنَّهُ لَوْ نَادَاهُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ أَوْ حَائِطٍ وَقَالَ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَالَ‏:‏ سَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ الرِّسَالَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْغَائِبِ إنَّمَا تَكُونُ بِالْمُنَادَاةِ أَوْ الْكِتَابِ أَوْ الرِّسَالَةِ ا هـ‏.‏

وَلَوْ سَلَّمَ الْأَصَمُّ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَلِيَحْصُلَ بِهَا الْإِفْهَامُ، وَيَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، وَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِنْ رَدَّ عَلَيْهِ لِيَحْصُلَ بِهِ الْإِفْهَامُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْجَوَابِ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ وَالنَّظَرِ إلَى فَمِهِ لَمْ تَجِبْ الْإِشَارَةُ وَهُوَ مَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَسَلَامُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ مُعْتَدٌّ بِهِ وَكَذَا رَدُّهُ؛ لِأَنَّ إشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ سَلَّمَ ذِمِّيٌّ عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ لَهُ وُجُوبًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ‏:‏ وَعَلَيْكَ فَقَطْ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ ‏{‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ‏}‏ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ خَبَرَ ‏{‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ فَقُولُوا وَعَلَيْكَ‏}‏ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ‏:‏ كَانَ سُفْيَانُ يَرْوِي عَلَيْكُمْ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَذَفَهَا صَارَ قَوْلُهُمْ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ وَإِذَا ذَكَرَهَا وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ مَعَهُمْ وَالدُّخُولُ فِيمَا قَالُوهُ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ الْمَعْنَى‏:‏ وَنَحْنُ نَدْعُو عَلَيْكُمْ بِمَا دَعَوْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا، عَلَى أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا السَّامَ بِالْمَوْتِ فَلَا إشْكَالَ لِاشْتِرَاكِ الْخَلْقِ فِيهِ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

لَوْ سَلَّمَ عَلَى إنْسَانٍ وَرَضِيَ أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الرَّدِّ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَيَأْثَمُ بِتَعْطِيلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِتَعْطِيلِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَإِنْ بَعُدَ عَنْ الْمَحِلِّ، وَكَذَا يَأْثَمُ قَرِيبٌ مِنْهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، وَيَخْتَلِفُ هَذَا بِكِبَرِ الْبَلَدِ وَصِغَرِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ قَامَ بِهِ الْجَمِيعُ فَكُلُّهُمْ مُؤَدٍّ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَإِنْ تَرَتَّبُوا فِي أَدَائِهِ، قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ‏:‏ وَالْقِيَامُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْعَيْنِ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْهُ وَعَنْ الْأُمَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ أَفْضَلُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّارِحُ فِي شَرْحِهِ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ‏)‏ أَيْ السَّلَامِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى عَلَى الصَّبِيِّ، وَهُوَ سُنَّةُ عَيْنٍ إنْ كَانَ الْمُسَلِّمُ وَاحِدًا، وَسُنَّةُ كِفَايَةٍ إنْ كَانَ جَمَاعَةً‏.‏ أَمَّا كَوْنُهُ سُنَّةً فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏}‏ أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلِلْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ فِي الصَّحِيحَيْنِ‏.‏ وَأَمَّا كَوْنُهُ كِفَايَةً فَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد السَّابِقِ‏.‏ أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، وَهُوَ مَا لَوْ أَرْسَلَ سَلَامَهُ إلَى غَائِبٍ فَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ يَلْزَمُ الْمُرْسَلَ أَنْ يُبَلِّغَهُ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ وَيَجِبُ أَدَاؤُهَا وَيَجِبُ الرَّدُّ كَمَا مَرَّ، وَيُسَنُّ الرَّدُّ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ رَدِّهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي فَتَاوِيهِ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضٍ، وَنَظِيرُهُ إبْرَاءُ الْمُعْسِرِ سُنَّةٌ وَإِنْظَارُهُ فَرْضٌ وَإِبْرَاؤُهُ أَفْضَلُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُ الْقَاضِي‏:‏ لَيْسَ لَنَا سُنَّةُ كِفَايَةٍ غَيْرَ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْجَمَاعَةِ أُورِدَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ‏.‏ مِنْهَا التَّسْمِيَةُ عَلَى الْأَكْلِ، وَمِنْهَا الْأُضْحِيَّةُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمِنْهَا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَمِنْهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ‏.‏

المتن‏:‏

لَا عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ وَآكِلٍ وَفِي حَمَّامٍ، وَلَا جَوَابَ عَلَيْهِمْ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَ ‏(‏لَا‏)‏ يُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ ‏(‏عَلَى قَاضِي حَاجَةٍ‏)‏ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَلِأَنَّ مُكَالَمَتَهُ بَعِيدَةٌ عَنْ الْأَدَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاجَةِ حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَلَا عَلَى الْمُجَامِعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى ‏(‏آكِلٍ‏)‏ - بِالْمَدِّ - لِشَغْلِهِ بِهِ ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى مَنْ ‏(‏فِي حَمَّامٍ‏)‏ لِاشْتِغَالِهِ بِالِاغْتِسَالِ، وَهُوَ مَأْوَى الشَّيَاطِينَ، وَلَيْسَ مَوْضِعُ تَحِيَّةٍ‏.‏ وَاسْتَثْنَى مَعَ ذَلِكَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً، مِنْهَا الْمُصَلِّي، وَمِنْهَا الْمُؤَذِّنُ، وَمِنْهَا الْخَطِيبُ، وَمِنْهَا الْمُلَبِّي فِي النُّسُكِ، وَمِنْهَا مُسْتَغْرِقُ الْقَلْبِ بِالدُّعَاءِ، وَبِالْقِرَاءَةِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَمِنْهَا النَّائِمُ أَوْ النَّاعِسُ، وَمِنْهَا الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ؛ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ لَا تُنَاسِبُهُ‏.‏ وَالضَّابِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى حَالَةٍ لَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ الْقُرْبُ مِنْهُ ‏(‏وَلَا جَوَابَ‏)‏ وَاجِبٌ ‏(‏عَلَيْهِمْ‏)‏ لَوْ أُتِيَ بِهِ لِوَضْعِهِ السَّلَامَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ لِعَدَمِ سَنِّهِ‏.‏ وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ مِنْ الْأَكْلِ مَا إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الِابْتِلَاعِ وَقَبْلَ وَضْعِ لُقْمَةٍ أُخْرَى فَيُسَنُّ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَحِلِّ نَزْعِ الثِّيَابِ فِي الْحَمَّامِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مُقْتَضَى كَلَامِهِ اسْتِوَاءُ حُكْمِ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ يُكْرَهُ الرَّدُّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ وَالْمُجَامِعِ، وَيُنْدَبُ لِمَنْ يَأْكُلُ أَوْ فِي حَمَّامٍ، وَكَذَا الْمُصَلِّي وَنَحْوَهُ بِالْإِشَارَةِ‏.‏ وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُؤَذِّنِ لَمْ يَجِبْ حَتَّى يَفْرُغَ، وَهَلْ الْإِجَابَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ‏؟‏ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ‏.‏ وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَقِيلَ‏:‏ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي الرَّدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ مُطْلَقًا، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى حَاضِرِ الْخُطْبَةِ وَقُلْنَا بِالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْكَلَامُ، فَفِي الرَّدِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ‏:‏ أَصَحُّهَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ وُجُوبُ الرَّدِّ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ‏.‏ وَالثَّانِي اسْتِحْبَابُهُ‏.‏ وَالثَّالِثُ جَوَازُهُ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْخَطِيبِ‏.‏ أَمَّا هُوَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ قَطْعًا لِاشْتِغَالِهِ، وَالْقَارِئُ كَغَيْرِهِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ وَوُجُوبِ الرَّدِّ بِاللَّفْظِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي إلَّا مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ كَمَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

صِيغَةُ السَّلَامِ ابْتِدَاءً‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، وَيَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ، وَإِنْ بَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَكَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ‏.‏ أَمَّا لَوْ قَالَ‏:‏ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ فَلَيْسَ سَلَامًا فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِابْتِدَاءِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ، وَتُنْدَبُ صِيغَةُ الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا أَمْ جَمَاعَةً، وَيَكْفِي الْإِفْرَادُ لِلْوَاحِدِ - وَيَكُونُ آتِيًا بِأَصْلِ السُّنَّةِ - دُونَ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَكْفِي، وَالْإِشَارَةُ بِهِ بِيَدٍ أَوْ نَحْوِهَا بِلَا لَفْظٍ لَا يَجِبُ لَهَا رَدٌّ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّفْظِ أَفْضَلُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى اللَّفْظِ، وَصِيغَتُهُ رَدًّا‏:‏ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، أَوْ وَعَلَيْكَ السَّلَامُ لِلْوَاحِدِ، وَلَوْ تَرَكَ الْوَاوُ فَقَالَ‏:‏ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كَفَى، فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَعَلَيْكُمْ وَسَكَتَ عَنْ السَّلَامِ لَمْ يَكْفِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّلَامِ، وَقِيلَ‏:‏ يُجْزِئُ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ ذِمِّيٌّ عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ يَزِدْ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْكَ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ ثَمَّ السَّلَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ، بَلْ الْغَرَضُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ وَيَكْفِي سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْكُمْ سَلَامٌ جَوَابًا، وَلَكِنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِمَا أَفْضَلُ، وَزِيَادَةُ‏:‏ ‏"‏ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ‏"‏ عَلَى السَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا أُكْمِلُ مِنْ تَرْكِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَكْفِي وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، وَإِنْ أَتَى الْمُسَلِّمُ بِلَفْظِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ ابْنُ شُهْبَةَ‏:‏ وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ‏}‏ الْآيَةَ، وَلَوْ سَلَّمَ كُلٌّ مِنْ اثْنَيْنِ تَلَاقِيًا عَلَى الْآخِرِ مَعًا لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا الرَّدُّ عَلَى الْآخَرِ وَلَا يُحَصِّلُ الْجَوَابُ بِالسَّلَامِ، أَوْ مُرَتَّبًا كَفَى الثَّانِي سَلَامُهُ رَدًّا إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الِابْتِدَاءُ فَلَا يَكْفِي كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِصَرْفِهِ عَنْ الْجَوَابِ‏.‏ فُرُوعٌ‏:‏ يُنْدَبُ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْوَاقِفِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْجَمْعُ الْقَلِيلُ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِي حَالِ التَّلَاقِي فِي طَرِيقٍ، فَإِنْ عَكَسَ لَمْ يُكْرَهْ، أَمَّا إذَا وَرَدَ مَنْ ذُكِرَ عَلَى قَاعِدٍ أَوْ وَاقِفٍ أَوْ مُضْطَجِعٍ فَإِنَّ الْوَارِدَ يُبْدَأُ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَغِيرًا أَمْ لَا، قَلِيلًا أَمْ لَا، وَيُكْرَهُ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ مِنْ الْجَمْعِ بِالسَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا‏.‏ وَلَوْ سَلَّمَ بِالْعَجَمِيَّةِ جَازَ إنْ أَفْهَمَ الْمُخَاطَبُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَيَجِبُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى سَلَامًا‏.‏ وَيَحْرُمُ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الشَّخْصُ ذِمِّيًّا لِلنَّهْيِ عَنْهُ، فَإِنْ بَانَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا فَلْيَقُلْ لَهُ نَدْبًا‏:‏ اسْتَرْجَعْتُ سَلَامِي كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، أَوْ رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي كَمَا فِي الْأَذْكَارِ تَحْقِيرًا لَهُ، وَيَسْتَثْنِيه بِقَلْبِهِ إنْ كَانَ بَيْنَ مُسْلِمِينَ، وَلَا يَبْدَأُ بِتَحِيَّةٍ غَيْرِ السَّلَامِ أَيْضًا كَأَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ، أَوْ صُبِّحْت بِالْخَيْرِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَإِنْ كَتَبَ إلَى كَافِرٍ كَتَبَ نَدْبًا السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى‏.‏ وَلَوْ قَامَ عَنْ مَجْلِسٍ فَسَلَّمَ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَمَنْ دَخَلَ دَارًا نُدِبَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِنْ دَخَلَ مَوْضِعًا خَالِيًا عَنْ النَّاسِ نُدِبَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَيُنْدَبُ أَنْ يُسَمِّيَ قَبْلَ دُخُولِهِ، وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ ثُمَّ يُسَلِّمَ بَعْدَ دُخُولِهِ، وَأَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ مَارًّا فِي سُوقٍ وَجَمْعٍ لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ السَّلَامُ الْوَاحِدُ سَلَّمَ عَلَى مَنْ يَلِيه أَوَّلَ مُلَاقَاتَهُ، فَإِنْ جَلَسَ إلَى مَنْ سَمِعَهُ سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ، أَوْ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ سَلَّمَ ثَانِيًا،‏.‏ وَلَا يَتْرُكُ السَّلَامَ لِخَوْفِ عَدَمِ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِتَكَبُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالتَّحِيَّةُ مِنْ الْمَارِّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِنَحْوِ صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ أَوْ السَّعَادَةِ، أَوْ طَابَ حَمَّامُكَ، أَوْ قَوَّاك اللَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ وَلَا جَوَابَ لِقَائِلِهَا، فَإِنْ أَجَابَ بِالدُّعَاءِ فَحَسَنٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ تَأْدِيبَهُ لِتَرْكِهِ السَّلَامَ فَتَرْكُ الدُّعَاءِ لَهُ أَحْسَنُ‏.‏ وَأَمَّا التَّحِيَّةُ بِالطَّلْبَقَةِ وَهِيَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فَقِيلَ بِكَرَاهَتِهَا‏.‏ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ كَمَا قَالَ‏:‏ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ إنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ أَوْ الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ وُلَاةِ الْعَدْلِ فَالدُّعَاءُ لَهُ بِذَلِكَ قُرْبَةٌ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ، وَحَنْيُ الظَّهْرِ مَكْرُوهٌ، وَلَا يُغْتَرُّ بِكَثْرَةِ مَنْ يَفْعَلُهُ‏.‏ وَتَقْبِيلُ الْيَدِ لِزُهْدٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ كَكِبَرِ سِنٍّ وَشَرَفٍ وَصِيَانَةٍ مُسْتَحَبٌّ، وَتَقْبِيلُهَا لِدُنْيَا أَوْ ثَرْوَةٍ أَوْ نَحْوِهَا كَشَوْكَةٍ وَوَجَاهَةٍ مَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ، وَتَقْبِيلُ خَدِّ طِفْلٍ لَا يُشْتَهَى وَلَوْ لِغَيْرِهِ، وَتَقْبِيلُ كُلٍّ مِنْ أَطْرَافِهِ شَفَقَةً وَرَحْمَةً سُنَّةٌ‏.‏ وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ لِلتَّبَرُّكِ، وَيُنْدَبُ الْقِيَامُ لِلدَّاخِلِ إنْ كَانَ فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ، أَوْ شَرَفٍ، أَوْ وِلَادَةٍ، أَوْ رَحِمٍ، أَوْ وِلَايَةٍ مَصْحُوبَةٍ بِصِيَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَيَكُونُ هَذَا الْقِيَامُ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ، لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الدَّاخِلِ مَحَبَّةَ الْقِيَامِ لَهُ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَسْتَمِرُّوا قِيَامًا لَهُ كَعَادَةِ الْجَبَابِرَةِ، أَمَّا مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَلَا يُتَّجَهُ كَمَا قَالَ‏:‏ شَيْخُنَا تَحْرِيمُهُ‏.‏ وَتُنْدَبُ الْمُصَافَحَةُ مَعَ بَشَاشَةِ الْوَجْهِ، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ وَغَيْرِهَا لِلتَّلَاقِي، وَلَا أَصْلَ لِلْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاتَيْ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهَا فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَافَحَةِ وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا‏.‏ وَإِنْ قَصَدَ بَابًا لِغَيْرِهِ مُغْلَقًا نُدِبَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَسْتَأْذِنَ، فَإِنْ لَمْ يُجَبْ أَعَادَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ أُجِيبَ فَذَاكَ، وَإِلَّا رَجَعَ، فَإِنْ قِيلَ لَهُ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ نُدِبَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْرِيفُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُكَنِّيَ نَفْسَهُ، أَوْ يَقُولَ الْقَاضِي فُلَانٌ‏.‏ أَوْ الشَّيْخُ فُلَانٌ إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ إلَّا بِذَلِكَ، وَيُكْرَهُ اقْتِصَارُهُ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ أَنَا، أَوْ الْخَادِمُ‏.‏ وَتُنْدَبُ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ، وَالْجِيرَانِ غَيْرِ الْأَشْرَارِ، وَالْإِخْوَانِ وَالْأَقَارِبِ وَإِكْرَامُهُمْ بِحَيْثُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَنْ يَزُورُوهُ، وَأَنْ يُكْثِرُوا زِيَارَتَهُ بِحَيْثُ لَا يَشُقُّ‏.‏ وَتُنْدَبُ عِيَادَةُ الْمَرْضَى، وَأَنْ يَضَعَ مَنْ جَاءَهُ الْعُطَاسُ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ أَوْ نَحْوَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَيُخَفِّفُ صَوْتَهُ مَا أَمْكَنَ، وَأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَقِبَ عُطَاسِهِ‏.‏ ثُمَّ إنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ أَسَرَّ بِهِ، أَوْ فِي حَالَةِ بَوْلٍ، أَوْ جِمَاعٍ أَوْ نَحْوِهِ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى شُمِّتَ إلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا دُعِيَ لَهُ بِالشِّفَاءِ وَيُذَكَّرُ بِالْحَمْدِ إنْ تَرَكَهُ، وَالتَّشْمِيتُ لِلْمُسْلِمِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَوْ رَبُّكَ، وَيَرُدُّ بِيَهْدِيكُمْ اللَّهُ، أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، وَابْتِدَاؤُهُ وَرَدُّهُ سُنَّةُ عَيْنٍ إنْ تَعَيَّنَ وَإِلَّا فَكِفَايَةٌ‏.‏ وَتَشْمِيتُ الْكَافِرِ بِيَهْدِيك اللَّهُ وَنَحْوه، لَا بِيَرْحَمُك اللَّهُ تَعَالَى‏.‏ وَيُنْدَبُ رَدُّ التَّثَاؤُبِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ غَلَبَهُ سَتَرَ فَمَهُ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرَهَا، وَيُنْدَبُ أَنْ يُرَحِّبَ بِالْقَادِمِ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ يُلَبِّيَ دُعَاءَهُ‏.‏ أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا، وَأَنْ يُخْبِرَ أَخَاهُ بِحُبِّهِ لَهُ فِي اللَّهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ لِمَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ وَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ لِلرَّجُلِ الْجَلِيلِ فِي عِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ أَوْ نَحْوِهِ‏:‏ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَوْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، وَدَلَائِلُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا جِهَادَ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَ امْرَأَةٍ وَمَرِيضٍ وَذِي عَرَجٍ بَيِّنٍ، وَأَقْطَعَ، وَأَشَلَّ، وَ عَبْدٍ وَعَادِمِ أُهْبَةِ قِتَالٍ، وَكُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ الْحَجِّ مَنَعَ الْجِهَادَ إلَّا خَوْفَ طَرِيقٍ مِنْ كُفَّارٍ، وَكَذَا مِنْ لُصُوصِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّحِيحِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي مَوَانِعِ الْجِهَادِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَا جِهَادَ‏)‏ وَاجِبٌ إلَّا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُرْتَدٍّ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ بَالِغٍ، عَاقِلٍ، ذَكَرٍ، مُسْتَطِيعٍ لَهُ، حُرٍّ وَلَوْ سَكْرَانَ، وَاجِدٍ أُهْبَةَ الْقِتَالِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى كَافِرٍ وَلَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ يَبْذُلُ الْجِزْيَةَ لِيُذَبَّ عَنْهُ لَا لِيَذُبَّ عَنَّا، وَلَا ‏(‏عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ‏)‏ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ‏}‏ الْآيَةَ، قِيلَ هُمْ الصِّبْيَانُ لِضَعْفِ أَبْدَانِهِمْ، وَقِيلَ الْمَجَانِينُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ جَمَاعَةً اسْتَصْغَرَهُمْ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ ‏{‏أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَ عُمَرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَجَازَهُ فِي الْخَنْدَقِ‏}‏ وَكَذَا اتَّفَقَ لِسَعْدِ بْنِ حَبَّةَ‏:‏ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ الْأَنْصَارِيّ، ‏{‏وَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يُقَاتِلُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ قَالَ‏:‏ أَسْعَدَ اللَّهُ جَدَّكَ اقْتَرِبْ مِنِّي، فَاقْتَرَبَ مِنْهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ‏}‏، فَكَانَ عَمًّا لِأَرْبَعِينَ، وَخَالًا لِأَرْبَعِينَ، وَجَدًّا لِعِشْرِينَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُ ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى خُنْثَى، وَلَا ‏(‏امْرَأَةٍ‏)‏ لِضَعْفِهَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ‏}‏ وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ يَنْصَرِفُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالْخُنْثَى مِثْلُهَا‏.‏ وَأَحْسَنَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَإِذَا الْمَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّدًا فَظُهُورُهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامُ ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى ‏(‏مَرِيضٍ‏)‏ يُتَعَذَّرُ قِتَالُهُ أَوْ تَعْظُمُ مَشَقَّتُهُ وَلَا عَلَى أَعْمَى ‏(‏وَ‏)‏ لَا ‏(‏ذِي عَرَجٍ بَيِّنٍ‏)‏ وَلَوْ فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏}‏ فَلَا عِبْرَةَ بِصُدَاعٍ وَوَجَعِ ضِرْسٍ وَضَعْفِ بَصَرٍ إنْ كَانَ يُدْرِكُ الشَّخْصَ وَيُمْكِنُهُ اتِّقَاءُ السِّلَاحِ، وَلَا عَرَجٍ يَسِيرٍ لَا يَمْنَعُ الْمَشْيَ وَالْعَدْوَ وَالْهَرَبَ ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى ‏(‏أَقْطَعَ‏)‏ يَدٍ بِكَمَالِهَا أَوْ مُعْظَمِ أَصَابِعِهَا، بِخِلَافِ فَاقِدِ الْأَقَلِّ، أَوْ فَاقِدِ الْأَنَامِلِ، أَوْ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ إنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ بِغَيْرِ عَرَجٍ بَيِّنٍ ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى ‏(‏أَشَلَّ‏)‏ يَدٍ أَوْ مُعْظَمِ أَصَابِعِهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْجِهَادِ الْبَطْشُ وَالنِّكَايَةَ وَهُوَ مَفْقُودٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الضَّرْبِ ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى ‏(‏عَبْدٍ‏)‏ وَلَوْ مُبَعَّضًا أَوْ مُكَاتَبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ‏}‏ وَلَا مَالَ لِلْعَبْدِ وَلَا نَفْسَ يَمْلِكُهَا فَلَمْ يَشْمَلْهُ الْخِطَابُ حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَلَيْسَ الْقِتَالُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَقْتَضِي التَّعَرُّضَ لِلْهَلَاكِ ‏(‏وَ‏)‏ لَا عَلَى ‏(‏عَادِمِ أُهْبَةِ قِتَالٍ‏)‏ مِنْ نَفَقَةٍ وَسِلَاحٍ، وَكَذَا مَرْكُوبٌ إنْ كَانَ سَفَرَ قَصْرٍ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَزِمَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ فَاضِلٌ ذَلِكَ عَنْ مُؤْنَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ كَمَا فِي الْحَجِّ، وَلَوْ مَرِضَ بَعْدَ مَا خَرَجَ أَوْ فَنِيَ زَادُهُ أَوْ هَلَكَتْ دَابَّتُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ أَوْ يَمْضِيَ، فَإِنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الصَّحِيحِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِتَالُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ فَالْأَصَحُّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ الرَّمْيُ بِهَا عَلَى تَنَاقُضٍ وَقَعَ لَهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ دَارِهِ أَوْ حَوْلَهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُؤَنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَشْعَرَ كَلَامُهُ بِاشْتِرَاطِ مِلْكِهِ الْأُهْبَةَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْعَدَمِ عَدَمَ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَوْ بُذِلَ لِعَادِمِ الْأُهْبَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا‏.‏ ثُمَّ أَشَارَ لِضَابِطٍ يَعُمُّ مَا سَبَقَ وَغَيْرَهُ بِقَوْلِهِ ‏(‏وَكُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ الْحَجِّ‏)‏ كَفَقْدِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ ‏(‏مَنَعَ الْجِهَادَ‏)‏ أَيْ وُجُوبَهُ ‏(‏إلَّا خَوْفَ طَرِيقٍ مِنْ كُفَّارٍ‏)‏ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ جَزْمًا لِبِنَاءِ الْجِهَادِ عَلَى مُصَادَمَةِ الْمَخَاوِفِ ‏(‏وَ كَذَا‏)‏ خَوْفٌ ‏(‏مِنْ لُصُوصِ الْمُسْلِمِينَ‏)‏ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ يُحْتَمَلُ فِي هَذَا السَّفَرِ وَقِتَالُ اللُّصُوصِ أَهَمُّ وَأَوْلَى، وَالثَّانِي، يَمْنَعُ كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَأْنَفُ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحِلُّ الْوُجُوبِ فِي الصُّورَتَيْنِ إذَا كَانَ لَهُ قُوَّةٌ تُقَاوِمُهُمْ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْذُورٌ‏.‏

المتن‏:‏

وَالدَّيْنُ الْحَالُّ يُحَرِّمُ سَفَرَ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، وَالْمُؤَجَّلُ لَا، وَقِيلَ يَمْنَعُ سَفَرًا مَخُوفًا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَوَانِعِ الْجِهَادِ الْحِسِّيَّةِ شَرَعَ فِي مَوَانِعِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَالدَّيْنُ الْحَالُّ‏)‏ عَلَى مُوسِرٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ‏(‏يُحَرِّمُ‏)‏ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ ‏(‏سَفَرَ جِهَادٍ وَ‏)‏ سَفَرَ ‏(‏غَيْرِهِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَالْجِهَادُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ‏{‏الْقَتْلُ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ‏}‏ ‏(‏إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ‏)‏ وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ الْجَائِزِ الْإِذْنِ فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ وَالْحَبْسِ إنْ امْتَنَعَ‏.‏ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ لَمْ يَحْرُمْ‏.‏ أَمَّا غَيْرُ جَائِزِ الْإِذْنِ كَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ، فَلَا يَأْذَنُ لِمَدِينِ الْمَحْجُورِ فِي السَّفَرِ وَكَالْمَدْيُونِ وَلِيُّهُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَالِبُ‏.‏ وَلَوْ اسْتَنَابَ الْمُوسِرُ مَنْ يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ جَازَ لَهُ السَّفَرُ بِغَيْرِ إذْنِ غَرِيمِهِ بِخِلَافِ مَالِهِ الْغَائِبِ قَدْ لَا يَصِلُ، وَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَيْسَ لِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، إذْ لَا مُطَالَبَةَ فِي الْحَالِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

حَيْثُ جَاهَدَ بِالْإِذْنِ قَالَ‏:‏ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ‏:‏ لَا يَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ وَلَا يَتَقَدَّمُ أَمَامُ الصُّفُوفِ‏:‏ بَلْ يَقِفُ فِي وَسَطِهَا وَحَوَاشِيهَا لِيَحْفَظَ الدَّيْنَ بِحِفْظِ نَفْسِهِ‏.‏ ‏(‏وَ‏)‏ الدَّيْنُ ‏(‏الْمُؤَجَّلُ لَا‏)‏ يُحَرِّمُ السَّفَرَ مُطْلَقًا، فَلَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّيْنِ، وَإِنْ قَرُبَ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِهِ إلَّا بَعْدَ حُلُولِهِ وَهُوَ الْآنَ مُخَاطَبٌ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ الْخُرُوجَ مَعَهُ إنْ شَاءَ لِيُطَالِبَهُ عِنْدَ الْحُلُولِ ‏(‏وَقِيلَ يَمْنَعُ سَفَرًا مَخُوفًا‏)‏ كَالْجِهَادِ وَرُكُوبِ الْبَحْرِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْغَرِيمِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَحْرُمُ جِهَادٌ إلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ، لَا سَفَرُ تَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ وَكَذَا كِفَايَةٍ فِي الْأَصَحِّ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَحْرُمُ‏)‏ عَلَى رَجُلٍ ‏(‏جِهَادٌ‏)‏ بِسَفَرٍ وَغَيْرِهِ ‏(‏إلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَبِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ‏"‏ ‏{‏أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَلَكَ وَالِدَانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ‏}‏ وَفِي رِوَايَةٍ ‏{‏أَلَكَ وَالِدَةٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَانْطَلِقْ إلَيْهَا فَأَكْرِمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا‏}‏ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ‏:‏ صَحِيحٌ وَلَوْ كَانَ الْحَيُّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَجَمِيعَ أُصُولِهِ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ، وَلَوْ وَجَدَ الْأَقْرَبَ مِنْهُمْ وَأَذِنَ، سَوَاءٌ كَانُوا أَحْرَارًا أَمْ أَرِقَّاءَ، ذُكُورًا أَمْ إنَاثًا؛ لِأَنَّ بِرَّهُمْ مُتَعَيِّنٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، وَكَذَا الْمُنَافِقُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا اُعْتُبِرَ إذْنُ سَيِّدِهِ لَا وَالِدَيْهِ كَمَا قَالَ‏:‏ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَيَلْزَمُ الْمُبَعَّضَ اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَالسَّيِّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ ‏(‏لَا سَفَرُ تَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ‏)‏ حَيْثُ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَلِّمُهُ أَوْ تَوَقَّعَ زِيَادَةَ فَرَاغٍ أَوْ إرْشَادٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ كَحَجٍّ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَضَيَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ ‏(‏وَكَذَا‏)‏ سَفَرُ تَعَلُّمِ فَرْضِ ‏(‏كِفَايَةٍ‏)‏ فَيَجُوزُ أَيْضًا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ كَأَنْ خَرَجَ طَالِبًا لِدَرَجَةِ الْإِفْتَاءِ، وَفِي النَّاحِيَةِ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَحَبْسَهُ بَعِيدٌ، وَالثَّانِي لَهُمَا الْمَنْعُ كَالْجِهَادِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْجِهَادَ فِيهِ خَطَرٌ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّاحِيَةِ مُسْتَقِلٌّ بِالْإِفْتَاءِ، وَلَكِنْ خَرَجَ جَمَاعَةٌ فَلَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ الْمَنْعُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْحَالِ مَنْ يَقُومُ بِالْمَقْصُودِ، وَالْخَارِجُونَ قَدْ لَا يَظْفَرُونَ بِالْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ أَحَدٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنٍ، وَلَا مَنْعَ لَهُمَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ بِالْخُرُوجِ يَدْفَعُ الْإِثْمَ عَنْ نَفْسِهِ كَالْفَرْضِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ، وَقَيَّدَ الرَّافِعِيُّ الْخَارِجَ وَحْدَهُ بِالرَّشِيدِ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ‏:‏ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ أَنْ لَا يَكُونَ أَمْرَدَ جَمِيلًا يُخْشَى عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ وَجَبَ اسْتِئْذَانُهُمَا وَلَوْ كَافِرَيْنِ إلَّا أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَالِهِ الْحَاضِرِ، وَقَضِيَّتُهُ كَمَا قَالَ‏:‏ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ إذَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ كَذَلِكَ إنْ كَانَ الْفَرْعُ أَهْلًا لِلْإِذْنِ، وَهَذَا يُلْغِزُ بِهِ، فَيُقَالُ وَالِدٌ لَا يُسَافِرُ إلَّا بِإِذْنِ وَلَدِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ‏:‏ أَيْ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَسَافَرَ فِي بَقِيتِهِ كَانَ كَالْمَدْيُونِ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَالتِّجَارَةِ، وَحُكْمُهُ إنْ كَانَ قَصِيرًا فَلَا مَنْعَ مِنْهُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا، فَإِنْ غَلَبَ الْخَوْفُ فَكَالْجِهَادِ وَإِلَّا جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ، وَالْوَالِدُ الْكَافِرُ فِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ كَالْمُسْلِمِ مَا عَدَا الْجِهَادَ كَمَا مَرَّ‏.‏

المتن‏:‏

فَإِنْ أَذِنَ أَبَوَاهُ وَالْغَرِيمُ ثُمَّ رَجَعُوا وَجَبَ الرُّجُوعُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ، فَإِنْ شَرَعَ فِي قِتَالٍ حَرُمَ الِانْصِرَافُ فِي الْأَظْهَرِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏فَإِنْ أَذِنَ‏)‏ لِرَجُلٍ ‏(‏أَبَوَاهُ وَالْغَرِيمُ‏)‏ فِي جِهَادٍ ‏(‏ثُمَّ رَجَعُوا‏)‏ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَعَلِمَ بِذَلِكَ ‏(‏وَجَبَ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏الرُّجُوعُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ‏)‏؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِذْنِ عُذْرٌ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِهَادِ، فَكَذَا طَرَيَانُه كَالْعَمَى وَالْمَرَضِ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَصْلُهُ الْكَافِرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ وَعَلِمَ الْفَرْعُ الْحَالَ فَكَالرُّجُوعِ عَنْ الْإِذْنِ‏:‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَلَامِهِ مَا لَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ خَافَ انْكِسَارَ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ بِرُجُوعِهِ، أَوْ خَرَجَ مَعَ الْإِمَامِ بِجُعْلٍ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ تَبَعًا لِلنَّصِّ فَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ، بَلْ لَا يَجُوزُ فِي مُعْظَمِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ عِنْدَ الْخَوْفِ بِمَوْضِعٍ فِي طَرِيقِهِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ الْجَيْشُ فَيَرْجِعَ مَعَهُمْ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِقَامَةُ وَلَا الرُّجُوعُ فَلَهُ الْمُضِيُّ مَعَ الْجَيْشِ، لَكِنْ يَتَوَقَّى مَظَانَّ الْقَتْلِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ‏(‏فَإِنْ‏)‏ حَضَرَ الصَّفَّ وَ ‏(‏شَرَعَ فِي قِتَالٍ‏)‏ بِأَنْ الْتَقَى الصَّفَّانِ، ثُمَّ رَجَعَ مَنْ ذُكِرَ وَعَلِمَ بِرُجُوعِهِ ‏(‏حَرُمَ الِانْصِرَافُ فِي الْأَظْهَرِ‏)‏ وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ لِوُجُوبِ الْمُصَابَرَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا‏}‏ وَلِأَنَّ الِانْصِرَافَ يُشَوِّشُ أَمْرَ الْقِتَالِ وَيَكْسِرُ الْقُلُوبَ، وَالثَّانِي لَا يَحْرُمُ، بَلْ يَجِبُ الِانْصِرَافُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْآدَمِيِّ الَّذِي بِنَاؤُهُ عَلَى الضَّيْقِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَقِفُ مَوْقِفَ طَلَبِ الشَّهَادَةِ، بَلْ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَحْرُسُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَحَكَى عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ قَالَ‏:‏ فَإِنْ حَضَرَ الصَّفَّ كَمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الِانْصِرَافِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِتَالِ حَقِيقَةً، بَلْ الْتِقَاءُ الصَّفَّيْنِ كَافٍ فِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ‏.‏ فُرُوعٌ‏:‏ لَوْ خَرَجَ بِلَا إذْنٍ وَشَرَعَ فِي الْقِتَالِ حَرُمَ الِانْصِرَافُ أَيْضًا لِمَا مَرَّ، وَرُجُوعُ الْعَبْدِ إنْ خَرَجَ بِلَا إذْنٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ وَاجِبٌ، وَبَعْدَهُ مَنْدُوبٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الثَّبَاتُ بَعْدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ‏.‏ وَلَوْ مَرِضَ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ أَوْ عَرِجَ عَرَجَا بَيِّنًا أَوْ تَلِفَ زَادُهُ أَوْ دَابَّتُهُ فَلَهُ الِانْصِرَافُ، وَلَوْ مِنْ الْوَقْعَةِ إنْ لَمْ يُورِثْ فَشَلًا فِي الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ انْصِرَافُهُ مِنْهَا، وَلَا يَنْوِي الْمُنْصَرِفَ مِنْ الْوَقْعَةِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ فِرَارًا‏.‏ فَإِنْ انْصَرَفَ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ مُقَارِفَتِهِ دَارَ الْحَرْبِ لَا بَعْدَهُ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ لِلْجِهَادِ، وَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْخُصْلَةِ ا الْوَاحِدَةِ بِخِلَافِ مَنْ شَرَعَ فِي تَعَلُّمِ عِلْمٍ لَا يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ، وَإِنْ أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ الرُّشْدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ غَالِبًا‏.‏ قَالَ‏:‏ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَالْمُخْتَارُ لُزُومُ إتْمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ تَلَبَّسَ بِفَرْضٍ، وَلَوْ شُرِعَ لِكُلِّ شَارِعٍ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إضَاعَةِ الْعِلْمِ‏.‏ وَأَجَابَ السُّبْكِيُّ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْجِهَادِ بِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْعِلْمِ لَهُ بَاعِثٌ نَفْسِيٌّ عَمَّنْ يُحِثُّهُ عَلَى دَوَامِ الِاشْتِغَالِ بِهِ لِمَحَبَّةِ ثَمَرَتِهِ، وَالْمُقَاتِلَ مَيْلُهُ إلَى الْحَيَاةِ يُبَاعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ لِكَرَاهَةِ الْمَوْتِ وَشِدَّةِ سَكَرَاتِهِ، فَوُكِلَ الْمُشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ إلَى مَحَبَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهُومٌ لَا يَشْبَعُ، وَكُلِّفَ الْمُقَاتِلُ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ الْمَمَاتِ الَّذِي مِنْهُ يُفَزَّعُ، وَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏مِدَادُ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ‏}‏‏.‏

المتن‏:‏

الثَّانِي يَدْخُلُونَ بَلْدَةً لَنَا فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا الدَّفْعُ بِالْمُمْكِنِ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَأَهُّبٌ لِقِتَالٍ وَجَبَ الْمُمْكِنُ حَتَّى عَلَى فَقِيرٍ وَوَلَدٍ وَمَدِينٍ وَعَبْدٍ بِلَا إذْنٍ، وَقِيلَ‏:‏ إنْ حَصَلَتْ مُقَاوَمَةٌ بِأَحْرَارٍ اُشْتُرِطَ إذْنُ سَيِّدِهِ، وَإِلَّا فَمَنْ قُصِدَ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْمُمْكِنِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ أَخَذَ قُتِلَ، وَإِنْ جَوَّزَ الْأَسْرَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَالِ ‏(‏الثَّانِي‏)‏ مِنْ حَالَيْ الْكُفَّارِ، وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ‏(‏يَدْخُلُونَ بَلْدَةً لَنَا‏)‏ أَوْ يَنْزِلُونَ عَلَى جَزَائِرَ أَوْ جَبَلٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ بَعِيدًا عَنْ الْبَلَدِ ‏(‏فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا الدَّفْعُ بِالْمُمْكِنِ‏)‏ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ الْجِهَادُ حِينَئِذٍ فَرْضَ عَيْنٍ، وَقِيلَ كِفَايَةً، وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ‏:‏ إنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ لَهُ ‏(‏فَإِنْ أَمْكَنَ‏)‏ أَهْلَهَا ‏(‏تَأَهُّبٌ‏)‏ أَيْ اسْتِعْدَادٌ ‏(‏لِقِتَالٍ وَجَبَ‏)‏ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ‏(‏الْمُمْكِنُ‏)‏ أَيْ الدَّفْعُ لِلْكُفَّارِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ ‏(‏حَتَّى عَلَى فَقِيرٍ‏)‏ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ‏(‏وَوَلَدٍ وَمِّ دِينٍ‏)‏ وَهُوَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ‏(‏وَعَبْدٍ بِلَا إذْنٍ‏)‏ مِنْ أَبَوَيْنِ وَرَبِّ دَيْنٍ وَمِنْ سَيِّدٍ، وَيَنْحَلُّ الْحَجْرُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ خَطْبٌ عَظِيمٌ لَا سَبِيلَ إلَى إهْمَالِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَدِّ فِي دَفْعِهِ بِمَا يُمْكِنُ، وَفِي مَعْنَى دُخُولِهِمْ الْبَلْدَة مَا لَوْ أَطَلُّوا عَلَيْهَا، وَالنِّسَاءُ كَالْعَبِيدِ إنْ كَانَ فِيهِنَّ دِفَاعٌ، وَإِلَّا فَلَا يَحْضُرْنَ‏.‏ قَالَ‏:‏ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَحْتَاجَ الْمَرْأَةُ إلَى إذْنِ الزَّوْجِ ‏(‏وَقِيلَ‏:‏ إنْ حَصَلَتْ مُقَاوَمَةٌ بِأَحْرَارٍ اُشْتُرِطَ‏)‏ فِي عَبْدٍ ‏(‏إذْنُ سَيِّدِهِ‏)‏؛ لِأَنَّ فِي الْأَحْرَارِ غُنْيَةً عَنْهُمْ وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ‏:‏ هُوَ مُقْتَضَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَصَحُّ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ الْأَوَّلُ لِتَقْوَى الْقُلُوبِ وَتَعْظُمَ الشَّوْكَةُ وَتَشْتَدَّ النِّكَايَةُ فِي الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مِنْ هُجُومِهِمْ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْ أَهْلَ الْبَلْدَةَ التَّأَهُّبُ لِقِتَالٍ بِأَنْ هَجَمَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً ‏(‏فَمَنْ قُصِدَ‏)‏ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ وَلَوْ عَبْدًا، أَوْ امْرَأَةً، أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُ ‏(‏دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ‏)‏ الْكُفَّارَ ‏(‏بِالْمُمْكِنِ‏)‏ لَهُ ‏(‏إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ أُخِذَ قُتِلَ‏)‏ بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا ‏(‏وَإِنْ جَوَّزَ‏)‏ الْمُكَلَّفُ الْمَذْكُورُ ‏(‏ الْأَسْرَ‏)‏ وَالْقَتْلَ ‏(‏فَلَهُ‏)‏ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَ ‏(‏أَنْ يَسْتَسْلِمَ‏)‏ لِقَتْلِ الْكُفَّارِ إنْ كَانَ رَجُلًا؛ لِأَنَّ الْمُكَافَحَةَ حِينَئِذٍ اسْتِعْجَالٌ لِلْقَتْلِ، وَالْأَسْرَ يَحْتَمِلُ الْخَلَاصُ، هَذَا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ قُتِلَ، وَإِلَّا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الِاسْتِسْلَامِ‏.‏ أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ عَلِمَتْ امْتِدَادُ الْأَيْدِي إلَيْهَا بِالْفَاحِشَةِ فَعَلَيْهَا الدَّفْعُ وَإِنْ قُتِلَتْ؛ لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ لَا تُبَاحُ عِنْدَ خَوْفِ الْقَتْلِ وَإِنْ لَمْ تَمْتَدَّ الْأَيْدِي إلَيْهَا بِالْفَاحِشَةِ الْآنَ، وَلَكِنْ تَوَقَّعَتْهَا بَعْدَ السَّبْيِ اُحْتُمِلَ جَوَازُ اسْتِسْلَامِهَا ثُمَّ تَدْفَعُ إذَا أُرِيدَ مِنْهَا، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا، ثُمَّ مَا مَرَّ حُكْمُ أَهْلِ بَلْدَةٍ دَخَلَهَا الْكُفَّارُ، وَأَشَارَ لِغَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ مِنْ الْبَلْدَةِ كَأَهْلِهَا، وَمَنْ عَلَى الْمَسَافَةِ يَلْزَمُهُمْ الْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكْفِ أَهْلُهَا وَمَنْ يَلِيهِمْ‏.‏ قِيلَ‏:‏ وَإِنْ كَفَوْا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ مِنْ الْبَلْدَةِ‏)‏ الَّتِي دَخَلَهَا الْكُفَّارُ حُكْمُهُ ‏(‏كَأَهْلِهَا‏)‏ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمُضِيُّ إلَيْهِمْ إنْ وَجَدُوا زَادًا، وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَرْكُوبُ لِقَادِرٍ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى الْأَصَحِّ، هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ الَّتِي دَخَلُوهَا كِفَايَةٌ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْحَاضِرِينَ مَعَهُمْ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْبَلْدَةِ ثُمَّ الْأَقْرَبِينَ فَالْأَقْرَبِينَ إذَا قَدَرُوا عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يَلْبَثُوا إلَى لُحُوقِ الْآخَرِينَ ‏(‏وَمَنْ‏)‏ أَيْ‏:‏ وَاَلَّذِينَ هُمْ ‏(‏عَلَى الْمَسَافَةِ‏)‏ لِلْقَصْرِ فَأَكْثَرَ ‏(‏يَلْزَمُهُمْ‏)‏ فِي الْأَصَحِّ إنْ وَجَدُوا زَادًا وَمَرْكُوبًا ‏(‏الْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إنْ لَمْ يَكْفِ أَهْلُهَا وَمَنْ يَلِيهِمْ‏)‏ دَفْعًا عَنْهُمْ وَإِنْقَاذًا لَهُمْ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الْخُرُوجَ، بَلْ إذَا صَارَ إلَيْهِمْ قَوْمٌ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ ‏(‏قِيلَ‏:‏ وَإِنْ كَفَوْا‏)‏ أَيْ أَهْلُ الْبَلَدِ وَمَنْ يَلِيهِمْ يَلْزَمُ مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ مُوَافَقَتُهُمْ مُسَاعَدَةً لَهُمْ، وَدُفِعَ بِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى الْإِيجَابِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يُوجِبُ عَلَى الْأَقْرَبِينَ فَالْأَقْرَبِينَ بِلَا ضَبْطٍ حَتَّى يَصِلَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ كَفَوْا، فَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ وَمَنْ عَلَى مَسَافَةٍ‏.‏ قِيلَ يَلْزَمُهُمْ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَالْأَصَحُّ إنْ كَفَى أَهْلُهَا لَمْ يَلْزَمْهُمْ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ أَسَرُوا مُسْلِمًا فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ النُّهُوض إلَيْهِمْ لِخَلَاصِهِ إنْ تَوَقَّعْنَاهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ أَسَرُوا‏)‏ أَيْ الْكُفَّارُ ‏(‏مُسْلِمًا فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ النُّهُوضِ إلَيْهِمْ‏)‏ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا دَارَنَا ‏(‏لِخَلَاصِهِ إنْ تَوَقَّعْنَاهُ‏)‏ بِأَنْ يَكُونُوا قَرِيبِينَ كَمَا نَنْهَضُ إلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ دَارَنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الدَّارِ‏.‏ وَالثَّانِي الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ إزْعَاجِ الْجُنُودِ لِخَلَاصِ أَسِيرٍ بَعِيدٌ‏.‏ أَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُهُ بِأَنْ لَمْ يَرْجُوهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ جِهَادُهُمْ، بَلْ يَنْتَظِرُ لِلضَّرُورَةِ، وَذَكَرَ فِي التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ فَكَّ مَنْ أُسِرَ مِنْ الذِّمِّيِّينَ‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏

لَا تَتَسَارَعُ الطَّوَائِفُ وَالْآحَادُ مِنَّا إلَى دَفْعِ مَلِكٍ مِنْهُمْ عَظِيمِ شَوْكَتُهُ دَخَلَ أَطْرَافَ بِلَادِنَا لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْخَطَرِ‏.‏